الباحث القرآني

فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِحْسَانَ إِلَى النِّسَاءِ وَإِيصَالَ صَدُقَاتِهِنَّ إِلَيْهِنَّ، وَانْجَرَّ الْأَمْرُ إِلَى ذِكْرِ مِيرَاثِهِنَّ مَعَ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ، ذَكَرَ أَيْضًا التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، لِئَلَّا تَتَوَهَّمَ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهَا تَرْكُ التَّعَفُّفِ. الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّاتِي﴾ (اللَّاتِي) جَمْعُ الَّتِي، وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِلْمُؤَنَّثِ، وَهِيَ مَعْرِفَةٌ وَلَا يَجُوزُ نَزْعُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْهُ لِلتَّنْكِيرِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِصِلَتِهِ، وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُجْمَعُ أَيْضًا (اللَّاتِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِبْقَاءِ الْكَسْرَةِ، وَ (اللَّائِي) بِالْهَمْزَةِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَ (اللَّاءِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَحَذْفِ الْيَاءِ، وَ (اللا) بحذف الهمزة. فإن جَمَعْتَ الْجَمْعَ قُلْتَ فِي اللَّاتِي: اللَّوَاتِي، وَفِي اللَّاءِ: اللَّوَائِي. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ (اللَّوَاتِ) بِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِبْقَاءِ الْكَسْرَةِ، قَالَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ: مِنَ اللَّوَاتِي وَالَّتِي واللات ... زَعَمْنَ أَنْ قَدْ كَبُرَتْ لِدَاتِ وَاللَّوَا بِإِسْقَاطِ التَّاءِ. وَتَصْغِيرُ الَّتِي اللُّتَيَّا بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ، قَالَ الرَّاجِزُ: بعد اللتيا واللتيا [[هذا صدر بيت للعجاج، وعجزه: إذا علتها نفس تردت.]] والتي وَبَعْضُ الشُّعَرَاءِ أَدْخَلَ عَلَى (الَّتِي) حَرْفَ النِّدَاءِ، وَحُرُوفُ النِّدَاءِ لَا تَدْخُلُ عَلَى مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِلَّا فِي قَوْلِنَا: يَا اللَّهُ وَحْدَهُ، فَكَأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِهِ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ غَيْرَ مُفَارِقَتَيْنِ لَهَا. وَقَالَ: مِنْ أجلك يا لتي تَيَّمْتِ قَلْبِي ... وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالْوُدِّ عَنِّي وَيُقَالُ: وَقَعَ فِي اللَّتَيَّا وَالَّتِي، وَهُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ الدَّاهِيَةِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ﴾ الْفَاحِشَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الزِّنَا، وَالْفَاحِشَةُ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ، وَهِيَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (بِالْفَاحِشَةِ) بِبَاءِ الْجَرِّ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْ نِسائِكُمْ﴾ إِضَافَةٌ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ وَبَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنَاتِ، كَمَا قَالَ: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [[راجع ج ٣ ص ٣٨٩.]]) لِأَنَّ الْكَافِرَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِنَسَبٍ وَلَا يَلْحَقُهَا هَذَا الْحُكْمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾ أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ اللَّهُ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا خَاصَّةً أَرْبَعَةً تَغْلِيظًا عَلَى الْمُدَّعِي وَسَتْرًا عَلَى الْعِبَادِ. وَتَعْدِيلُ الشُّهُودِ بِالْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [[راجع ج ١٢ ص ١٧١.]]) وَقَالَ هُنَا: (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ [قَدْ [[من أبى داود كما في ابن العربي.]]] زَنَيَا فَقَالَ: [النَّبِيُّ ﷺ [[من أبى داود كما في ابن العربي.]]] (ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ) فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَّا فَنَشَدَهُمَا: (كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنَ فِي التَّوْرَاةِ)؟ قَالَا: نَجِدُ في التوراة إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا. قَالَ: (فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا)، قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالشُّهُودِ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِرَجْمِهِمَا. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا كَانَ الشُّهُودُ فِي الزِّنَا أَرْبَعَةً لِيَتَرَتَّبَ شَاهِدَانِ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّانِيَيْنِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، إِذْ هُوَ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَدْخُلُ فِي الْأَمْوَالِ وَاللَّوْثَ [[اللوث: هو أن يشهد شاهد واحد على اقرار المقتول قبل أن يموت: أن فلانا قتلني، أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما أو تهديد منه له، أو نحو ذلك. (النهاية).]] فِي الْقَسَامَةِ وَلَا مَدْخَلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا. السَّادِسَةُ- وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ ذُكُورًا، لِقَوْلِهِ: (مِنْكُمْ) وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَأَنْ يَكُونُوا عُدُولًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْبُيُوعِ وَالرَّجْعَةِ وَهَذَا أَعْظَمُ، وَهُوَ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَهَذَا مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالدَّلِيلِ، عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَلَا يَكُونُونَ ذِمَّةً [[في ج: ولا يكون ذمية، وفى ط وى وز: ذمة. والمراد المعاهدون. وفي البحر: ولا يكونوا.]]، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى ذِمِّيَّةٍ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي (الْمَائِدَةِ [[راجع ج ٦ ص ٣٤٩ فما بعد.]]) وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ: (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) فِي أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ أَحَدَ الشُّهُودِ فِي الْقَذْفِ لَمْ يُلَاعِنْ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي (النُّورِ [[راجع ج ١٢ ص ١٨٢ فما بعد.]]) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ﴾ هَذِهِ أَوَّلُ عُقُوبَاتِ [[كذا في ابن عطية، والعبارة له. وفي الأصول: عزمات.]] الزُّنَاةِ، وَكَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، قَالَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ حَتَّى نُسِخَ بِالْأَذَى الَّذِي بَعْدَهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ (النُّورِ) وَبِالرَّجْمِ فِي الثَّيِّبِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كَانَ الْإِيذَاءُ هُوَ الْأَوَّلُ ثُمَّ نُسِخَ بِالْإِمْسَاكِ، وَلَكِنَّ التِّلَاوَةَ أُخِّرَتْ وَقُدِّمَتْ، ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكَ، وَهَذَا الْإِمْسَاكُ وَالْحَبْسُ فِي الْبُيُوتِ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَكْثُرَ الْجُنَاةُ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَخُشِيَ قُوَّتُهُمُ اتُّخِذَ لَهُمْ سِجْنٌ، قَالَهُ ابن العربي. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَ هَذَا السِّجْنُ حَدًّا أَوْ تَوَعُّدًا بِالْحَدِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ، وَالثَّانِي- أَنَّهُ حَدٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. زَادَ ابْنُ زَيْدٍ: وَأَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنَ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُوتُوا عُقُوبَةً لَهُمْ حِينَ طَلَبُوا النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَدًّا بَلْ أَشَدُّ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ مَمْدُودًا [[كذا في ابن العربي. والأصول: كان محدودا. كلاهما ممدود.]] إِلَى غَايَةٍ وَهُوَ الْأَذَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي أَيِّهِمَا قَبْلُ، وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: (خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى:) ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [[راجع ج ٢ ص ٣٢١.]] (فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ ارْتَفَعَ حُكْمُ الصِّيَامِ لِانْتِهَاءِ غَايَتِهِ لَا لِنَسْخِهِ هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ اللَّذَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالتَّعْيِيرِ [[في ج: التعزير.]] وَالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْأَذَى وَالتَّعْيِيرَ [[في ج: التعزير.]] بَاقٍ مَعَ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْحَبْسُ فَمَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعٍ، وَإِطْلَاقُ الْمُتَقَدِّمِينَ النَّسْخَ عَلَى مِثْلِ هذا تجوز. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب