الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ﴾. قرأ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أهل الكتاب) بتخفيف الياء فيها جَمِيعًا. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَّا. وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَيْسَ نُبْعَثُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ). وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: تَفَاخَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِاللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: نَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾. السوء ها هنا الشِّرْكُ، قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْكَافِرِ، وَقَرَأَ (وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا الْكَفُورُ [[قراءة نافع. راجع ج ١٤ ص ٢٨٨]]). وَعَنْهُ أَيْضًا (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قَالَ: ذَلِكَ لمن أراد الله هو انه، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ فَلَا، قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قَوْمًا فَقَالَ: (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ). وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَكُفَّارَ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَفْظُ الْآيَةِ عَامٌّ، وَالْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ مُجَازًى بِعَمَلِهِ السُّوءِ، فَأَمَّا مُجَازَاةُ الْكَافِرِ فالنار، لان كفره أو بقه، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَبِنَكَبَاتِ الدُّنْيَا، كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةَ يُنْكَبُهَا وَالشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا). وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ، فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ وَالتِّسْعِينَ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ الْهُذَلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَيَّانَ [[يروى بالياء والباء (التقريب).]] أَبُو زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لِنَافِعٍ: لَا تَمُرَّ بِي عَلَى الْمَصْلُوبِ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، قَالَ: فما فجأه [[فجأه الامر وفجأه (بالكسر والفتح): هجم عليه من غير أن يشعر به.]] فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَنْ صَكَّ مَحْمَلَهُ جِذْعُهُ، [فَجَلَسَ [[من ج وط.]]] فَمَسَحَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَبَا خُبَيْبٍ أَنْ كُنْتَ وَأَنْ كُنْتَ! وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَاكَ الزُّبَيْرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ) فَإِنْ يَكُ هَذَا بِذَاكَ فَهِيهْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَأَمَّا فِي التَّنْزِيلِ فَقَدْ أَجْمَلَهُ فَقَالَ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) فَدَخَلَ فِيهِ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْعَدُوُّ وَالْوَلِيُّ وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، ثُمَّ مَيَّزَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْمَوْطِنَيْنِ فَقَالَ: (يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ) وَلَيْسَ يُجْمَعُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْمَوْطِنَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: فَإِنْ يَكُ هَذَا بِذَاكَ فَهِيهْ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَاتَلَ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَحْدَثَ فِيهِ حَدَثًا عَظِيمًا حَتَّى أُحْرِقَ الْبَيْتُ وَرُمِيَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ بِالْمَنْجَنِيقِ فَانْصَدَعَ حَتَّى ضُبِّبَ بِالْفِضَّةِ فَهُوَ إِلَى يَوْمِنَا [هَذَا [[من ج.]]] كَذَلِكَ، وَسُمِعَ لِلْبَيْتِ أَنِينًا: آهْ آهْ! فَلَمَّا رَأَى ابْنُ عُمَرَ فِعْلَهُ ثُمَّ رَآهُ مَقْتُولًا مَصْلُوبًا ذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ). ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَكُ هَذَا الْقَتْلُ بِذَاكَ الَّذِي فَعَلَهُ فَهِيهْ، أَيْ كَأَنَّهُ جُوزِيَ بِذَلِكَ السُّوءِ هَذَا الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ. رَحِمَهُ اللَّهُ! ثُمَّ مَيَّزَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ اللَّيْثِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا هَذِهِ بِمُبْقِيَةٍ مِنَّا، قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا يُجْزَى الْمُؤْمِنُ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). حَدَّثَنَا الْجَارُودُ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَعَبْدَةُ [[هو ابن سليمان الكلابي، عن إسماعيل بن أبى خالد، التهذيب.]] عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خالد عن أبي بكر ابن [أَبِي] زُهَيْرٍ [[أبو زهير هو معاذ بن رباح الثقفي كذا في أسد الغابة، وفى التهذيب: أبو زهرة.]] الثَّقَفِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الصَّلَاحُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَعَ هَذَا؟ كل شي عَمِلْنَاهُ جُزِينَا بِهِ، فَقَالَ: (غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تَنْصَبُ، أَلَسْتَ تَحْزَنُ، أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ [[للاواء: الشدة والمحنة.]])؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ (فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ) فَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا أَجْمَلَهُ التَّنْزِيلُ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ:) أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَلَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ لَهُمْ حَتَّى يُجْزَوْا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (. قَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَأَحْمَدُ بْنُ حنبل. ومولى بن سِبَاعٍ مَجْهُولٌ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ [[عبارة الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه.]] عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ: خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بن حرب قال حدثنا حماد ابن سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [[راجع ج ٣ ص ٤٢٠.]]) وَعَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهَا، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ، هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ حَتَّى الْبِضَاعَةِ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ فَيَفْقِدُهَا فَيَفْزَعُ فَيَجِدُهَا فِي عَيْبَتِهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ مِنَ الْكِيرِ (. وَاسْمُ (لَيْسَ) مُضْمَرٌ فِيهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ الْكَائِنُ مِنْ أُمُورِكُمْ مَا تَتَمَنَّوْنَهُ، بَلْ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ ثَوَابُ اللَّهِ بِأَمَانِيِّكُمْ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً﴾ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [[راجع ج ١٥ ص ٣٢٢.]]) وقيل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) إِلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ (وَلا يَجِدْ لَهُ) بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى (يُجْزَ بِهِ). وَرَوَى ابْنُ بَكَّارٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ (وَلَا يَجِدْ) بِالرَّفْعِ اسْتِئْنَافًا. فَإِنْ حُمِلَتِ الْآيَةُ عَلَى الْكَافِرِ فَلَيْسَ لَهُ غَدًا وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ. وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَلَيْسَ [لَهُ [[من ج وط وز.]]] وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ دُونَ الله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب