الباحث القرآني

فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ أَيْ مَلَّكْنَاكَ لِتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَتَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الصَّالِحِينَ وَقَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ٢٦٣ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.]] الْقَوْلُ فِي الخليفة وأحكامه. مستوفى والحمد لله. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ بِالْعَدْلِ وَهُوَ أَمْرٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَدِ ارْتَبَطَ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي عُوتِبَ عَلَيْهِ دَاوُدُ طَلَبُهُ الْمَرْأَةَ مِنْ زَوْجِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَدْلٍ. فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ هَذَا، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ "وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى " أَيْ لَا تَقْتَدِ بِهَوَاكَ الْمُخَالِفِ لِأَمْرِ اللَّهِ "فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. "إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" "أَيْ يَحِيدُونَ عَنْهَا وَيَتْرُكُونَهَا" لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ "فِي النَّارِ" بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ "أَيْ بِمَا تَرَكُوا مِنْ سُلُوكِ طَرِيقِ اللَّهِ، فَقَوْلُهُ:" نَسُوا "أَيْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِهِ، أَوْ تَرَكُوا العمل به فصار وا كَالنَّاسِينَ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا لِدَاوُدَ لَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ وَغَفَرَ خَطِيئَتَهُ. الثَّالِثَةُ- الْأَصْلُ فِي الْأَقْضِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ﴾وَقَوْلُهُ:﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: ٨] الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ [[راجع ج ٥ ص ٣٧٥ وما بعدها وج ٦ ص ١٠٩ وما بعدها وص ٢١٢ طبعه أو ثانية.]]. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" قَالَ: إِنِ ارْتَفَعَ لَكَ الْخَصْمَانِ فَكَانَ لَكَ فِي أَحَدِهِمَا هَوًى، فَلَا تَشْتَهِ فِي نَفْسِكَ الْحَقَّ لَهُ لِيَفْلُجَ عَلَى صَاحِبِهِ [[يفلج على صاحبه: نظفر ويفون.]]، فَإِنْ فَعَلْتَ مَحَوْتُ اسْمَكَ مِنْ نُبُوَّتِي، ثُمَّ لَا تَكُونُ خَلِيفَتِي وَلَا أَهْلَ كَرَامَتِي. فَدَلَّ هَذَا عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ، وَأَلَّا يَمِيلَ إِلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لِقَرَابَةٍ أَوْ رَجَاءِ نَفْعٍ، أَوْ سَبَبٍ يَقْتَضِي الْمَيْلَ مِنْ صُحْبَةٍ أو صداقة، أَوْ غَيْرِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا ابْتُلِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ خَصْمَانِ فَهَوِيَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِأَحَدِهِمَا. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ: بَلَغَنِي أَنَّ قَاضِيًا كَانَ فِي زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَلَغَ مِنِ اجْتِهَادِهِ أَنْ طَلَبَ إِلَى رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عِلْمًا، إِذَا هُوَ قَضَى بِالْحَقِّ عَرَفَ ذَلِكَ، وَإِذَا هُوَ قَصَّرَ عَرَفَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: ادْخُلْ مَنْزِلَكَ، ثُمَّ مُدَّ يَدَكَ فِي جِدَارِكَ، ثُمَّ انْظُرْ حَيْثُ تَبْلُغُ أَصَابِعُكَ مِنَ الْجِدَارِ فَاخْطُطْ عِنْدَهَا خَطًّا، فَإِذَا أَنْتَ قُمْتَ مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَارْجِعْ إِلَى ذَلِكَ الْخَطِّ فَامْدُدْ يَدَكَ إِلَيْهِ، فَإِنَّكَ مَتَى مَا كُنْتَ عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّكَ سَتَبْلُغُهُ، وَإِنْ قَصَّرْتَ عَنِ الْحَقِّ قَصَّرَ بِكَ، فَكَانَ يَغْدُو إِلَى الْقَضَاءِ وَهُوَ مُجْتَهِدٌ فَكَانَ لَا يَقْضِي إِلَّا بِحَقٍّ، وَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَفَرَغَ لَمْ يَذُقْ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، وَلَمْ يُفْضِ إِلَى أَهْلِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْخَطَّ، فَإِذَا بَلَغَهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَفْضَى إِلَى كُلِّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَطْعَمٍ أَوْ مَشْرَبٍ. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ يُرِيدَانِهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَخْتَصِمَا إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا له صديقا وخدن، فَتَحَرَّكَ قَلْبُهُ عَلَيْهِ مَحَبَّةً أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَيَقْضِيَ لَهُ، فَلَمَّا أَنْ تَكَلَّمَا دَارَ الْحَقُّ عَلَى صَاحِبِهِ فَقَضَى عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَهَبَ إِلَى خَطِّهِ كَمَا كَانَ يَذْهَبُ كُلَّ يَوْمٍ، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَى الْخَطِّ فَإِذَا الْخَطُّ قَدْ ذَهَبَ وَتَشَمَّرَ إِلَى السَّقْفِ، وَإِذَا هُوَ لَا يَبْلُغُهُ فَخَرَّ سَاجِدًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ شَيْئًا لَمْ أَتَعَمَّدْهُ وَلَمْ أُرِدْهُ فَبَيِّنِهِ لِي. فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْسَبَنَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى خِيَانَةِ قَلْبِكَ، حَيْثُ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِصَدِيقِكَ لِتَقْضِيَ لَهُ بِهِ، قَدْ أَرَدْتَهُ وَأَحْبَبْتَهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَدْ رَدَّ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ وَأَنْتَ كَارِهٌ. وَعَنْ لَيْثٍ قَالَ: تَقَدَّمَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَصْمَانِ فَأَقَامَهُمَا، ثُمَّ عَادَا فَأَقَامَهُمَا، ثُمَّ عَادَا فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: تَقَدَّمَا إِلَيَّ فَوَجَدْتُ لِأَحَدِهِمَا مَا لَمْ أَجِدْ لِصَاحِبِهِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَفْصِلَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ، عَادَا فَوَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ عَادَا وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ فَفَصَلْتُ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيٍّ خُصُومَةٌ، فَتَقَاضَيَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ أَشَارَ لِعُمَرَ إِلَى وِسَادَتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ، أَجْلِسْنِي وَإِيَّاهُ مَجْلِسًا وَاحِدًا، فَجَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ. الْخَامِسَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَمْنَعُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّ الْحُكَّامَ لَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِعِلْمِهِمْ لَمْ يَشَأْ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْفَظَ وَلِيَّهُ وَيُهْلِكَ عَدُوَّهُ إِلَّا ادَّعَى عِلْمَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، مَا أَخَذْتُهُ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِي. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ فَقَالَتْ لَهُ: احْكُمْ لِي عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهَا: إِنْ أَرَدْتِ أَنْ أَشْهَدَ لَكِ فَنَعَمْ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ اشْتَرَى فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ وَقَالَ: "مَنْ يَشْهَدُ لِي" فَقَامَ خُزَيْمَةُ فَشَهِدَ فَحَكَمَ. خَرَّجَ الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَقَدْ مَضَى في "البقرة." [[راجع ج ٣ ص ٤٠٥ طبعه أولى أو ثانية.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب