الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: ذَهَبَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ أبو مالك: ذَهَبَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: جَاءَ إِلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: عَدَلَ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. فَرَاغَ يَرُوغُ رَوْغًا وَرَوَغَانًا إِذَا مَالَ. وَطَرِيقٌ رَائِغٌ أَيْ مَائِلٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَيُرِيكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حلاوة ... وويروغ عَنْكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ فَقَالَ: "أَلا تَأْكُلُونَ" فَخَاطَبَهَا كَمَا يُخَاطِبُ مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهُمْ أَنْزَلُوهَا بتلك المنزلة. وكذا "ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ" قِيلَ: كَانَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَصْنَامِ طَعَامٌ تَرَكُوهُ لِيَأْكُلُوهُ إِذَا رَجَعُوا مِنَ الْعِيدِ، وَإِنَّمَا تَرَكُوهُ لِتُصِيبَهُ بَرَكَةُ أَصْنَامِهِمْ بِزَعْمِهِمْ. وَقِيلَ: تَرَكُوهُ لِلسَّدَنَةِ. وَقِيلَ: قَرَّبَ هُوَ إِلَيْهَا طَعَامًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ، فَقَالَ: "أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ". "فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ" خَصَّ الضَّرْبَ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا أَقْوَى وَالضَّرْبَ بِهَا أَشَدُّ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَمِينِ الْيَمِينُ الَّتِي حَلَفَهَا حِينَ قَالَ: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧]. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ: ضَرْبًا بِالْقُوَّةِ وَالْيَمِينُ الْقُوَّةُ. وقيل: بالعدل واليمين ها هنا الْعَدْلُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ [الحاقة: ٤٥ - ٤٤] أَيْ بِالْعَدْلِ، فَالْعَدْلُ لِلْيَمِينِ وَالْجَوْرُ لِلشِّمَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَدُوَّ عَنِ الشِّمَالِ وَالْمَعَاصِي عَنِ الشِّمَالِ وَالطَّاعَةَ عَنِ الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ﴾ [الصافات: ٢٨] أَيْ مِنْ قِبَلِ الطَّاعَةِ. فَالْيَمِينُ هُوَ مَوْضِعُ الْعَدْلِ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَالشِّمَالُ مَوْضِعُ الْجَوْرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَايَعَ اللَّهَ بِيَمِينِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، فَالْبَيْعَةُ بِالْيَمِينِ، فَلِذَلِكَ يُعْطَى كِتَابَهُ غَدًا بِيَمِينِهِ، لِأَنَّهُ وَفَّى بِالْبَيْعَةِ، وَيُعْطَى النَّاكِثُ لِلْبَيْعَةِ الْهَارِبُ بِرَقَبَتِهِ مِنَ اللَّهِ بِشِمَالِهِ، لِأَنَّ الْجَوْرَ هُنَاكَ. فَقَوْلُهُ: "فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ" أَيْ بِذَلِكَ الْعَدْلِ الَّذِي كَانَ بَايَعَ اللَّهَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ ثُمَّ وَفَّى لَهُ هَاهُنَا. فَجَعَلَ تِلْكَ الْأَوْثَانَ جُذَاذًا، أَيْ فُتَاتًا كَالْجَذِيذَةِ وَهِيَ السَّوِيقُ وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْقُوَّةِ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ "فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ" قَرَأَ حَمْزَةُ "يُزِفُّونَ" بِضَمِّ الْيَاءِ. الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا أَيْ يُسْرِعُونَ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يَمْشُونَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَمْشُونَ بِجَمْعِهِمْ عَلَى مَهَلٍ آمَنِينَ أَنْ يُصِيبَ أَحَدٌ آلِهَتَهُمْ بِسُوءٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يَتَسَلَّلُونَ تَسَلُّلًا بَيْنَ الْمَشْيِ وَالْعَدْوِ، وَمِنْهُ زَفِيفُ النَّعَامَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَسْعَوْنَ وَحَكَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: يُرْعِدُونَ غَضَبًا. وَقِيلَ: يَخْتَالُونَ وَهُوَ مَشْيُ الْخُيَلَاءِ، قاله مجاهد. ومنه أ، خذ زِفَافُ الْعَرُوسِ إِلَى زَوْجِهَا. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: وَجَاءَ قريع الشول قبل إفالها ... ويزف وَجَاءَتْ خَلْفَهُ وَهْيَ زُفَّفُ [[القريع: الفحل المختار للضراب. الشول من النوق جمع شائلة على غير قياس. وهى الناقة التي أتى عليها، حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها. وإفالها: صغارها. ويزف: يعدو. يريد أن القريع يفر من شدة البرد وكذا الافال.]] وَمَنْ قَرَأَ "يُزِفُّونَ" فَمَعْنَاهُ يُزِفُّونَ غَيْرَهُمْ أَيْ يَحْمِلُونَهُمْ عَلَى التَّزْفِيفِ. وَعَلَى هَذَا فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَزَفَفْتُ الْإِبِلَ أَيْ حَمَلْتُهَا عَلَى أَنْ تَزِفَّ. وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: زَفَّ الْقَوْمُ وَأَزَفُّوا، وَزَفَفْتُ الْعَرُوسَ وَأَزْفَفْتُهَا وَازْدَفَفْتُهَا بِمَعْنًى، وَالْمُزَفَّةُ: الْمِحَفَّةُ الَّتِي تُزَفُّ فِيهَا الْعَرُوسُ، حَكَى ذَلِكَ عَنِ الْخَلِيلِ. النحاس: "ويزفون" بِضَمِّ الْيَاءِ. زَعَمَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذِهِ اللُّغَةَ، وَقَدْ عَرَفَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ وَشَبَّهَهَا بِقَوْلِهِمْ: أَطَرَدْتُ الرَّجُلَ أَيْ صَيَّرْتُهُ إِلَى ذَلِكَ. وَطَرَدَتْهُ نَحَّيْتُهُ، وَأَنْشَدَ هُوَ وَغَيْرُهُ: تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يَسُودَ جِذَاعَةً ... وفأمسى حُصَيْنٌ قَدْ أُذِلَّ وَأُقْهِرَا [[البيت للمخبل السعدي يهجو الزبرقان وقومه، وهم المعروفون بالجذاع. والأصمعي يرويه كما في اللسان مادة قهر، قد أذل وأقهرا بالبناء للمعلوم، أي صار أمره الى الذل والقمر.]] أَيْ صُيِّرَ إِلَى ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ "يَزِفُّونَ" يَصِيرُونَ إِلَى الزَّفِيفِ. قَالَ محمد بن زيد: الزَّفِيفُ الْإِسْرَاعُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الزَّفِيفُ أَوَّلُ عَدْوِ النَّعَامِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَزَعَمَ الْكِسَائِيُّ أَنَّ قَوْمًا قَرَءُوا "فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُونَ" خَفِيفَةٌ، مِنْ وَزَفَ يَزِفُ، مِثْلَ وَزَنَ يَزِنُ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَهَذِهِ حِكَايَةُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكِسَائِيِّ شَيْئًا. وَرَوَى الْفَرَّاءُ وَهُوَ صَاحِبُ الْكِسَائِيِّ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ "يَزِفُونَ" مُخَفَّفَةً. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَنَا لَا أعرفها. قال أَبُو إِسْحَاقَ: وَقَدْ عَرَّفَهَا غَيْرُهُمَا أَنَّهُ يُقَالُ [[الزيادة من إعراب القرآن للنحاس.]] وَزَفَ يَزِفُّ إِذَا أَسْرَعَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَ "يَزِفُونَ". قُلْتُ: هِيَ قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ فِيمَا ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ. الزمخشري: و "يزفون" على البناء للمفعول. و "يُزْفُونَ" مِنْ زَفَاهُ إِذَا حَدَاهُ، كَأَنَّ بَعْضَهُمْ يَزِفُّ بَعْضًا لِتَسَارُعِهِمْ إِلَيْهِ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ السَّمَيْقَعِ "يَرْفُونَ" بِالرَّاءِ مِنْ رَفِيفِ النَّعَامِ، وَهُوَ رَكْضٌ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالطَّيَرَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ فِيهِ حَذْفٌ، أَيْ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا، فَقَالَ مُحْتَجًّا: "أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ" أَيْ أَتَعْبُدُونَ أَصْنَامًا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا بِأَيْدِيكُمْ تَنْجُرُونَهَا. وَالنَّحْتُ النَّجْرُ وَالْبَرْيُ نَحَتَهُ يَنْحِتُهُ بِالْكَسْرِ نَحْتًا أَيْ بَرَاهُ. وَالنُّحَاتَةُ الْبِرَايَةُ وَالْمِنْحَتُ مَا يُنْحَتُ بِهِ. "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ" "مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ وَخَلَقَ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، يَعْنِي الْخَشَبَ وَالْحِجَارَةَ وَغَيْرَهُمَا، كَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ﴾ [الأنبياء: ٥٦] وَقِيلَ: إِنَّ "مَا" اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ التَّحْقِيرُ لِعَمَلِهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ نَفْيٌ، وَالْمَعْنَى وَمَا تَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَكِنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ "مَا" مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرًا، وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّهَ خَلَقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْأَفْعَالَ خَلْقُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاكْتِسَابٌ لِلْعِبَادِ. وَفِي هَذَا إِبْطَالُ مَذَاهِبِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ" ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَخَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ صَنَعَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهَ فَهُوَ الْخَالِقُ وَهُوَ الصَّانِعُ سُبْحَانَهُ" وَقَدْ بَيَّنَّاهُمَا فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحسنى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب