الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسُنَّتِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الشِّيعَةُ الْأَعْوَانُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّيَاعِ، وَهُوَ الْحَطَبُ الصِّغَارُ الَّذِي يوقد مع الكبا ر حَتَّى يُسْتَوْقَدَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لَإِبْرَاهِيمَ. فَالْهَاءُ فِي "شِيعَتِهِ" عَلَى هَذَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ لِنُوحٍ وَهُوَ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَمَا كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ إِلَّا نَبِيَّانِ هُودٌ وَصَالِحٌ، وَكَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أَيْ مُخْلِصٍ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ. وَقَالَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ مَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ؟ فَقَالَ: النَّاصِحُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي خَلْقِهِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ وَعَوْفٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلْحَجَّاجِ: مِسْكِينٌ أَبُو مُحَمَّدٍ! إِنْ عَذَّبَهُ اللَّهُ فَبِذَنْبِهِ، وَإِنْ غَفَرَ لَهُ فَهَنِيئًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَلْبُهُ سَلِيمًا فَقَدْ أَصَابَ الذُّنُوبَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ لِمُحَمَّدٍ مَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ؟ قَالَ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ لَنَا: يَا بَنِيَّ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْعَنْ شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ تَعَالَى: "إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ". وَيَحْتَمِلُ مَجِيئُهُ إِلَى رَبِّهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عِنْدَ دُعَائِهِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، الثَّانِي عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ. "إِذْ قالَ لِأَبِيهِ" وَهُوَ آزَرُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ [[راجع ج ٧ ص ٢٢ طبعه أولى أو ثانية.]] فِيهِ. "وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ" تَكُونُ "مَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَ "ذَا" خَبَرَهُ وَيَجُوزُ أَنْ تكون "مَا" وَ "ذَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ "تعبدون" "أَإِفْكاً" نصب على المفعولية بِمَعْنَى أَتُرِيدُونَ إِفْكًا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: وَالْإِفْكُ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ وَيَضْطَرِبُ، وَمِنْهُ ائْتَفَكَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ. "آلِهَةً" بَدَلٌ مِنْ إِفْكٍ "دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ" أَيْ تَعْبُدُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا بِمَعْنَى أَتُرِيدُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ آفِكِينَ. "فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ" أَيْ مَا ظَنُّكُمْ بِهِ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟ فَهُوَ تَحْذِيرٌ، مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار: ٦]. وقيل: أي شي أُوهِمْتُمُوهُ حَتَّى أَشْرَكْتُمْ بِهِ غَيْرَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ: أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُهُمْ إِنَّ غَدًا عِيدُنَا فَاخْرُجْ مَعَنَا، فَنَظَرَ إِلَى نَجْمٍ طَالِعٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَطْلُعُ مَعَ سَقَمِي. وَكَانَ عِلْمُ النُّجُومِ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَهُمْ مَنْظُورًا فِيهِ، فَأَوْهَمَهُمْ هُوَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَأَرَاهُمْ مِنْ مُعْتَقَدِهِمْ عُذْرًا لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رِعَايَةٍ وَفِلَاحَةٍ، وَهَاتَانِ الْمَعِيشَتَانِ يُحْتَاجُ فِيهِمَا إِلَى نَظَرٍ فِي النُّجُومِ. وَقَالَ ابْنُ عباس: كان علم النجوم من النبوة ة، فَلَمَّا حَبَسَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسَ عَلَى يُوشَعَ بْنِ نُونَ أَبْطَلَ ذَلِكَ، فَكَانَ نَظَرُ إِبْرَاهِيمَ فِيهَا عِلْمًا نَبَوِيًّا. وَحَكَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ. كَانَ عِلْمُ النُّجُومِ بَاقِيًا إِلَى زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَقَالَتْ لَهُمْ مَرْيَمُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ بِمَوْضِعِهِ؟ قَالُوا: مِنَ النُّجُومِ. فَدَعَا رَبَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُفْهِمْهُمْ فِي عِلْمِهَا، فَلَا يَعْلَمُ عِلْمَ النُّجُومِ أَحَدٌ، فَصَارَ حُكْمُهَا فِي الشَّرْعِ مَحْظُورًا، وَعِلْمُهَا فِي النَّاسِ مَجْهُولًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانُوا فِي قرية بين البصرة والكوفة يقال لهم هرمزجرد [[ذكر هذا الاسم الطبري تاريخه ج ٢ ص ٣٤٦ طبعه ليدن م ١.]]، وَكَانُوا يَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ. فَهَذَا قَوْلٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا كَلَّفُوهُ الْخُرُوجَ مَعَهُمْ تَفَكَّرَ فِيمَا يَعْمَلُ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ نَظَرَ فِيمَا نَجَمَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ، أَيْ فِيمَا طَلَعَ لَهُ مِنْهُ، فَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ حَيٍّ يَسْقَمُ فَقَالَ. "إِنِّي سَقِيمٌ". الْخَلِيلُ وَالْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا فَكَّرَ فِي الشَّيْءِ يُدَبِّرُهُ: نَظَرَ فِي النُّجُومِ. وَقِيلَ: كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي دَعَوْهُ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُمْ فِيهَا سَاعَةً تَغْشَاهُ فِيهَا الْحُمَّى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَنَظَرَ فِيمَا نَجَمَ من الأشياء فعلم أن لها خالقا. وَمُدَبِّرًا، وَأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ كَتَغَيُّرِهَا. فَقَالَ: "إِنِّي سَقِيمٌ". قال الضَّحَّاكُ: مَعْنَى "سَقِيمٌ" سَأَسْقَمُ سَقَمَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ يَسْقَمُ فِي الْغَالِبِ ثُمَّ يَمُوتُ، وَهَذَا تَوْرِيَةٌ وَتَعْرِيضٌ، كَمَا قَالَ للملك لما سأل عَنْ سَارَةَ هِيَ أُخْتِي، يَعْنِي أُخُوَّةَ الدِّينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا أَشَارَ لَهُمْ إِلَى مَرَضٍ وَسَقَمٍ يُعْدِي كَالطَّاعُونِ، وكانوا يهربون من الطاعون، "ف" لذلك "فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ" أَيْ فَارِّينَ مِنْهُ خَوْفًا مِنَ الْعَدْوَى. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَسْبَاطٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ سَمُرَةَ عَنِ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّ لَنَا عِيدًا لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا لَأَعْجَبَكَ دِينُنَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْعِيدِ خَرَجُوا إِلَيْهِ وَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى بِنَفْسِهِ، وَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ أَشْتَكِي رِجْلِي، فَوَطَئُوا رِجْلَهُ وَهُوَ صَرِيعٌ، فَلَمَّا مَضَوْا نَادَى فِي آخِرِهِمْ ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧]. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُعَارِضٍ لِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اجْتَمَعَ لَهُ أَمْرَانِ. قُلْتُ: وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ" الْحَدِيثُ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ "الْأَنْبِيَاءِ" [[راجع ج ١١ ص وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.]] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سَقِيمًا وَإِنَّمَا عَرَّضَ لَهُمْ. وَقَدْ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠]. فَالْمَعْنَى إِنِّي سَقِيمٌ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَتَوَهَّمُوا هُمْ أَنَّهُ سَقِيمٌ السَّاعَةَ. وَهَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهُ الْمَثَلُ السَّائِرُ [[رواء الديلمي في مسند الفردوس حديثا عن ابن عباس بإسناد ضعيف.]] "كَفَى بِالسَّلَامَةِ دَاءً" وَقَوْلُ لَبِيَدٍ: فَدَعَوْتُ رَبِّي بِالسَّلَامَةِ جاهدا ... وليصحني فَإِذَا السَّلَامَةُ دَاءُ وَقَدْ مَاتَ رَجُلٌ فَجْأَةً فَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالُوا: مَاتَ وَهُوَ صَحِيحٌ! فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: أَصَحِيحٌ مَنِ الْمَوْتُ فِي عُنُقِهِ! فَإِبْرَاهِيمُ صَادِقٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ لِقُرْبِ مَحَلِّهِمْ وَاصْطِفَائِهِمْ عُدَّ هَذَا ذَنْبًا، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: ٨٢] وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ [[راجع ج ١١ ص ٣٠٠ وج ١٣ طبعه أولى أو ثانيه.]]. وَقِيلَ: أَرَادَ سَقِيمَ النَّفْسِ لِكُفْرِهِمْ. وَالنُّجُومُ يَكُونُ جمع نجم ويكون واحدا مصدرا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب