الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ- وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ رُوِيَ أَنَّ الْحُوتَ قَذَفَهُ بِسَاحِلِ قَرْيَةٍ مِنَ الْمَوْصِلِ. وَقَالَ ابْنُ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: طُرِحَ يُونُسُ بِالْعَرَاءِ وأنبت الله عليه بقطينه، فَقُلْنَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: وَمَا الْيَقْطِينَةُ؟ قَالَ: شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ أُرْوِيَّةً [[الأروية: الأنثى من الوعول.]] وَحْشِيَّةً تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ- أَوْ هَشَاشِ الْأَرْضِ- فَتَفْشِجُ [[تفشج: تفرج ما بين رجليها.]] عَلَيْهِ فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنِهَا كُلَّ عَشِيَّةٍ وَبُكْرَةٍ حَتَّى نَبَتَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ بِهِ يَعْنِي الْحُوتَ- حَتَّى لَفَظَهُ فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَطَرَحَهُ مِثْلَ الصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ خَلْقِهِ شي. وَقِيلَ إِنَّ يُونُسَ لَمَّا أَلْقَاهُ الْحُوتُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ أَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يقطين، وهى فيها ذكر شجرة القرع نتقطر عَلَيْهِ مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ. ثُمَّ رَجَعَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى الشَّجَرَةِ فَوَجَدَهَا يَبِسَتْ، فَحَزِنَ وَبَكَى عَلَيْهَا فَعُوتِبَ، فَقِيلَ لَهُ: أَحَزِنْتَ عَلَى شَجَرَةٍ وَبَكَيْتَ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَحْزَنْ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَزِيَادَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي، أَسْرَى فِي أَيْدِي الْعَدُوِّ، وَأَرَدْتَ إِهْلَاكَهُمْ جَمِيعًا. وَقِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ التِّينِ. وَقِيلَ: شَجَرَةُ الْمَوْزِ تَغَطَّى بِوَرَقِهَا، وَاسْتَظَلَّ بِأَغْصَانِهَا، وَأَفْطَرَ عَلَى ثِمَارِهَا. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا شَجَرَةُ الْيَقْطِينِ عَلَى مَا يَأْتِي. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اجْتَبَاهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ، فَعَمَدَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَقِيَ رَاعِيًا فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْمِ يُونُسَ وَعَنْ حَالِهِمْ وَكَيْفَ هُمْ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ بِخَيْرٍ، وَأَنَّهُمْ عَلَى رَجَاءٍ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ رَسُولُهُمْ. فَقَالَ لَهُ: فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي قَدْ لَقِيتُ يُونُسَ. قَالَ: وَمَاذَا؟ قَالَ: وَهَذِهِ الْبُقْعَةُ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا تَشْهَدُ لَكَ أَنَّكَ لَقِيتَ يُونُسَ، قَالَ: وَمَاذَا؟ قَالَ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ تَشْهَدُ لَكَ أَنَّكَ لَقِيتَ يُونُسَ. وَأَنَّهُ رَجَعَ الرَّاعِي إِلَى قَوْمِهِ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَقِيَ يُونُسَ فَكَذَّبُوهُ وَهَمُّوا بِهِ شَرًّا فَقَالَ: لَا تَعْجَلُوا عَلَيَّ حَتَّى أُصْبِحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِمْ إِلَى الْبُقْعَةِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا يُونُسَ، فَاسْتَنْطَقَهَا فَأَخْبَرَتْهُمْ أَنَّهُ لَقِيَ يونس، واستنطق الشاة والشجرة فأخبرناهم أَنَّهُ لَقِيَ يُونُسَ، ثُمَّ إِنَّ يُونُسَ أَتَاهُمْ بعد ذلك. ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ وَمَا قَبْلَهُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. "فَنَبَذْناهُ" طَرَحْنَاهُ. وَقِيلَ: تَرَكْنَاهُ. "بِالْعَراءِ" بِالصَّحْرَاءِ، قال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. الْأَخْفَشُ: بِالْفَضَاءِ. أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَاسِعُ مِنَ الْأَرْضِ. الْفَرَّاءُ: الْعَرَاءُ الْمَكَانُ الْخَالِي. قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَرَاءُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَأَنْشَدَ لِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ: وَرَفَعْتُ رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا ... وَنَبَذْتُ بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي وَحَكَى الْأَخْفَشُ فِي قَوْلِهِ: "وَهُوَ سَقِيمٌ" جَمْعُ سَقِيمٍ سَقْمَى [[الزيادة من إعراب القران للنحاس، وهى عبارته عن الأخفش.]] وَسَقَامَى وَسِقَامٌ. وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: "فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ" وقال في ﴿ن والقلم﴾ [القلم: ١]: ﴿لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ﴾ [القلم: ٤٩] والجواب: أن الله عز وجل خبر ها هنا أَنَّهُ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَلَوْلَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقَوْلُهُ، "وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ" يَعْنِي "عَلَيْهِ" أَيْ عِنْدَهُ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ﴾ [الشعراء: ١٤] أَيْ عِنْدِي. وَقِيلَ: "عَلَيْهِ" بِمَعْنَى لَهُ. "شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ" الْيَقْطِينُ: شَجَرُ الدُّبَّاءِ: وَقِيلَ غَيْرُهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَفِي الْخَبَرِ: "الدُّبَّاءُ وَالْبِطِّيخُ مِنَ الْجَنَّةِ" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِكُلِّ شَجَرَةٍ لَيْسَ لَهَا سَاقٌ يَفْتَرِشُ وَرَقُهَا عَلَى الْأَرْضِ يَقْطِينَةٌ نَحْوَ الدُّبَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْحَنْظَلِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا سَاقٌ يُقِلُّهَا فَهِيَ شَجَرَةٌ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَيْ بِعُرُوقٍ تَفْتَرِشُ فَهِيَ نَجْمَةٌ وَجَمْعُهَا نَجْمٌ. قال الله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ﴾ [الرحمن: ٦] وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ. قَالُوا: كُلُّ نَبْتٍ يَمْتَدُّ وَيُبْسَطُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يَبْقَى عَلَى اسْتِوَاءٍ وَلَيْسَ لَهُ سَاقٌ نَحْوُ الْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقَرْعِ وَالْحَنْظَلِ فَهُوَ يَقْطِينٌ. وقال سعيد بن جبير: هو كل شي يَنْبُتُ ثُمَّ يَمُوتُ مِنْ عَامِهِ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَوْزُ. قُلْتُ: وَهُوَ مِمَّا لَهُ سَاقٌ. الْجَوْهَرِيُّ: وَالْيَقْطِينُ مَا لَا سَاقَ لَهُ كَشَجَرِ الْقَرْعِ وَنَحْوِهِ. الزَّجَّاجُ: اشْتِقَاقُ الْيَقْطِينِ مِنْ قَطَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ فَهُوَ يَفْعِيلٌ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا خُصَّ الْيَقْطِينُ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ ذُبَابٌ. وَقِيلَ: ما كان ثم يقطين فَأَنْبَتَهُ اللَّهُ فِي الْحَالِ. الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَفْرُوشًا لِيَكُونَ لَهُ ظِلٌّ. الثَّعْلَبِيُّ: كَانَتْ تُظِلُّهُ فَرَأَى خُضْرَتَهَا فَأَعْجَبَتْهُ، فَيَبِسَتْ فَجَعَلَ يَتَحَزَّنُ عَلَيْهَا، فَقِيلَ لَهُ: يَا يُونُسُ أَنْتَ الَّذِي لَمْ تَخْلُقْ وَلَمْ تَسْقِ وَلَمْ تُنْبِتْ تَحْزَنُ عَلَى شُجَيْرَةٍ، فَأَنَا الَّذِي خَلَقْتُ مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ يَزِيدُونَ تُرِيدُ مِنِّي أَنْ أَسْتَأْصِلَهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ تَابُوا وَتُبْتُ عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ رَحْمَتِي يَا يُونُسُ أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الثَّرِيدَ بِاللَّحْمِ وَالْقَرْعِ وَكَانَ يُحِبُّ الْقَرْعَ وَيَقُولُ: "إِنَّهَا شَجَرَةُ أَخِي يُونُسَ" وَقَالَ أَنَسٌ: قُدِّمَ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَرَقٌ فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ فَجَعَلَ يَتْبَعُ الدُّبَّاءَ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رِسَالَةَ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ. وَلَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ. النَّحَّاسُ: وَأَجْوَدُ مِنْهُ إِسْنَادًا وَأَصَحُّ مَا حُدِّثْنَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا الحسن بن محمد قال حدثني عَمْرُو بْنُ الْعَنْقَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَنْ يُونُسَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ يُونُسَ وَعَدَ قَوْمَهُ الْعَذَابَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَفَرَّقُوا بين كل والدة وولدها، وحرجوا فَجَأَرُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَغْفَرُوا، فَكَفَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَغَدَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْتَظِرُ الْعَذَابَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا- وكان من كذب لم تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ قُتِلَ- فَخَرَجَ يُونُسُ مُغَاضِبًا، فَأَتَى قَوْمًا فِي سَفِينَةٍ فَحَمَلُوهُ وَعَرَفُوهُ، فَلَمَّا دَخَلَ السَّفِينَةَ رَكَدَتِ السَّفِينَةُ وَالسُّفُنُ تَسِيرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالُوا: مَا لِسَفِينَتِكُمْ؟ فَقَالُوا: لَا نَدْرِي. فَقَالَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ فِيهَا عَبْدًا آبِقًا مِنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَإِنَّهَا لَنْ تَسِيرَ حَتَّى تُلْقُوهُ. قَالُوا أَمَّا أَنْتَ يَا نبي الله فإنا لا نلقيك. قال: فأقر عوا فَمَنْ قُرِعَ فَلْيَقَعْ، فَاقْتَرَعُوا فَقَرَعَهُمْ يُونُسُ فَأَبَوْا أن يدعوه، فال: فَاقْتَرِعُوا ثَلَاثًا فَمَنْ قُرِعَ فَلْيَقَعْ. فَاقْتَرَعُوا فَقَرَعَهُمْ يُونُسُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ قَالَ ثَلَاثًا فَوَقَعَ. وَقَدْ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ جَلَّ وَعَزَّ حُوتًا فَابْتَلَعَهُ وَهُوَ يَهْوِي بِهِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَسْبِيحَ الْحَصَى ﴿فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] قَالَ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ. قَالَ: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ "قَالَ: كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ الْمَمْعُوطِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ. قَالَ: وَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ فَنَبَتَتْ، فَكَانَ يَسْتَظِلُّ بِهَا وَيُصِيبُ مِنْهَا، فَيَبِسَتْ فَبَكَى عَلَيْهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ إِلَيْهِ: أَتَبْكِي عَلَى شَجَرَةٍ يَبِسَتْ، وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ أَرَدْتَ أَنْ تُهْلِكَهُمْ قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ يُونُسُ فَإِذَا هُوَ بِغُلَامٍ يَرْعَى، قَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ قَوْمِ يُونُسَ. قَالَ: فَإِذَا جِئْتَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّكَ قَدْ لَقِيتَ يُونُسَ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ يُونُسَ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَمَنْ يَشْهَدُ لِي؟ قَالَ: هَذِهِ الشَّجَرَةُ وَهَذِهِ الْبُقْعَةُ. قَالَ: فَمُرْهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا يُونُسُ: إِذَا جَاءَكُمَا هَذَا الْغُلَامُ فَاشْهَدَا لَهُ. قَالَتَا نَعَمْ. قَالَ: فَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَى قَوْمِهِ وَكَانَ فِي مَنَعَةٍ وَكَانَ لَهُ إِخْوَةٌ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ لَقِيتُ يُونُسَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ، فَقَالُوا: إِنَّ لَهُ بَيِّنَةً فَأَرْسِلُوا مَعَهُ. فَأَتَى الشَّجَرَةَ وَالْبُقْعَةَ فَقَالَ لَهُمَا: نَشَدْتُكُمَا بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ أَتَشْهَدَانِ أَنِّي لَقِيتُ يُونُسَ؟ قَالَتَا: نَعَمْ! قَالَ: فَرَجَعَ الْقَوْمُ مَذْعُورِينَ يَقُولُونَ لَهُ: شَهِدَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ وَالْأَرْضُ فَأَتَوُا الْمَلِكَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَتَنَاوَلَ الْمَلِكُ يَدَ الْغُلَامِ فَأَجْلَسَهُ فِي مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَكَانِ مِنِّي. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَقَامَ لَهُمْ ذَلِكَ الْغُلَامُ أَمْرَهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ يُونُسَ كَانَ قَدْ أُرْسِلَ قَبْلَ أَنْ يلقمه الحو ت بِهَذَا الْإِسْنَادِ الَّذِي لَا يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الْفَائِدَةِ أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ آمَنُوا اوندموا قَبْلَ أَنْ يَرَوُا الْعَذَابَ، لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، وَضَجُّوا ضَجَّةً وَاحِدَةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ كَحُكْمِهِ فِي غَيْرِهِمْ في قول عَزَّ وَجَلَّ:﴿ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا﴾ [غافر: ٨٥] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ" [النساء : ١٨] الآية. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُمْ رَأَوْا مَخَائِلَ الْعَذَابِ فَتَابُوا. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا فِي سُورَةِ "يُونُسَ" [[راجع ج ٨ ص ٣٨٤ طبعه أولى أو ثانيه.]] فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ قَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ٤٦٣ وما بعدها طبعه ثانيه أو ثالثه.]] مَحَامِلُ "أَوْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً". وقال الْفَرَّاءُ: "أَوْ" بِمَعْنَى بَلْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَمَّا اشْتَدَّ أَمْرُ الْحَرْبِ فِينَا ... وَتَأَمَّلْنَا رِيَاحًا أَوْ رِزَامَا أَيْ وَرِزَامًا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ". وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ "إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَيَزِيدُونَ" بِغَيْرِ هَمْزٍ فَ "يَزِيدُونَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَهُمْ يَزِيدُونَ. النَّحَّاسُ: وَلَا يَصِحُّ هَذَانَ الْقَوْلَانِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَنْكَرُوا كَوْنَ "أَوْ" بِمَعْنَى بَلْ وَبِمَعْنَى الْوَاوِ، لِأَنَّ بَلْ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْإِيجَابِ لِمَا بَعْدَهُ وَتَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ خُرُوجٍ مِنْ شي الى شي وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ، وَالْوَاوُ مَعْنَاهُ خِلَافُ مَعْنَى "أَوْ" فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الْآخَرِ لَبَطَلَتِ الْمَعَانِي، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ أَخْصَرَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَعْنَى وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى جَمَاعَةٍ لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ هُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ أَكْثَرُ، وَإِنَّمَا خوطب العباد على يا يَعْرِفُونَ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ أو عمر وَأَنْتَ تَعْرِفُ مَنْ جَاءَكَ مِنْهُمَا إِلَّا أَنَّكَ أَبْهَمْتَ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ: أَيْ أَوْ يَزِيدُونَ فِي تَقْدِيرِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: زَادُوا عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَرَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مَرْفُوعًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: ثَلَاثِينَ أَلْفًا. الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ: بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: سَبْعِينَ أَلْفًا. "فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ" أَيْ إِلَى مُنْتَهَى آجالهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب