الباحث القرآني

فِيهِ ثَمَانُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ يُونُسُ هُوَ ذُو النُّونِ، وَهُوَ ابْنُ مَتَّى، وَهُوَ ابْنُ الْعَجُوزِ الَّتِي نَزَلَ عَلَيْهَا إِلْيَاسُ فَاسْتَخْفَى عِنْدَهَا مِنْ قَوْمِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَيُونُسُ صَبِيٌّ يَرْضَعُ، وَكَانَتْ أُمُّ يُونُسَ تَخْدُمُهُ بِنَفْسِهَا وَتُؤَانِسُهُ، وَلَا تَدَّخِرُ عَنْهُ كَرَامَةً تَقْدِرُ عَلَيْهَا ثُمَّ إِنَّ إِلْيَاسَ سَئِمَ ضِيقَ الْبُيُوتِ فَلَحِقَ بِالْجِبَالِ، وَمَاتَ ابْنُ الْمَرْأَةِ يُونُسُ، فَخَرَجَتْ فِي أَثَرِ إِلْيَاسَ تَطُوفُ وَرَاءَهُ فِي الْجِبَالِ حَتَّى وَجَدَتْهُ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهُ لَهَا لَعَلَّهُ يُحْيِي لَهَا وَلَدَهَا، فَجَاءَ إِلْيَاسُ إِلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ مَوْتِهِ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَدَعَا اللَّهَ فَأَحْيَا اللَّهُ يُونُسَ بْنَ مَتَّى بِدَعْوَةِ إِلْيَاسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ يُونُسَ إ لي أَهْلِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الأصنام ثم تابوا، حسب ما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "يُونُسَ" [[ج ٨ ص ٣٨٤ طبعه أولى أو ثانية.]] وَمَضَى فِي "الْأَنْبِيَاءِ" [[ج ١١ ص ٣٢٩ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.]] قِصَّةُ يُونُسَ فِي خُرُوجِهِ مُغَاضِبًا. وَاخْتُلِفَ فِي رِسَالَتِهِ هَلْ كَانَتْ قَبْلَ الْتِقَامِ الْحُوتِ إِيَّاهُ أَوْ بَعْدَهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى يُونُسَ فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى فَأَنْذِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَهُمْ. قَالَ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: أَلْتَمِسُ حِذَاءً. قَالَ: الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَغَضِبَ فَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَةِ فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ احْتَبَسَتِ السَّفِينَةُ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ. قال: فتساهموا، قَالَ: فَسُهِمَ، فَجَاءَ الْحُوتُ يُبَصْبِصُ بِذَنَبِهِ، فَنُودِيَ الْحُوتُ: أَيَا حُوتُ! إِنَّا لَمْ نَجْعَلْ لَكَ يُونُسَ رِزْقًا، إِنَّمَا جَعَلْنَاكَ لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا. قَالَ: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى مَرَّ بِهِ إِلَى الْأُبُلَّةِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِ عَلَى دِجْلَةَ، ثُمَّ انْطَلَقَ حتى ألقاه في نينوى. حدثنا الحرث قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ، وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَا يَخْرُجُ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، فَكَانَ مَا جَرَى مِنْهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ دُعَائِهِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَبْلِيغِهِ إِيَّاهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَلَكِنَّهُ وَعَدَهُمْ نُزُولَ مَا كَانَ حَذَّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ فِي وَقْتٍ وَقَّتَهُ لَهُمْ فَفَارَقَهُمْ إِذْ لَمْ يَتُوبُوا وَلَمْ يُرَاجِعُوا طَاعَةَ اللَّهِ، فَلَمَّا أَظَلَّ الْقَوْمَ الْعَذَابُ وَغَشِيَهُمْ- كما قال الله تعالى في تنزيله- تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، وَبَلَغَ يُونُسَ سَلَامَتُهُمْ وَارْتِفَاعُ الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ وَعَدَهُمُوهُ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَعَدْتُهُمْ وَعْدًا فَكَذَبَ وَعْدِي. فَذَهَبَ مُغَاضِبًا رَبَّهُ وَكَرِهَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ، وقد جربوا عليه الكذب، روا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي "الْأَنْبِيَاءِ" وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى ما يأتي عند قول تَعَالَى: ﴿وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧]. ولم ينصف يُونُسُ، لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ وَلَوْ كَانَ عَرَبِيًّا لانصرف وإن كانت في أول الْيَاءُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ يُفْعُلُ كَمَا أَنَّكَ إِذَا سَمَّيْتَ بِيُعْفُرٍ صَرَفْتَهُ [[وذلك لأنه زال عنه شبه الفعل بخلاف يعفر فانه على وزن يقتل فمنع الصرف.]]، وَإِنْ سَمَّيْتَ بِيَعْفُرَ لَمْ تَصْرِفْهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ أَبَقَ تَبَاعَدَ، وَمِنْهُ غُلَامٌ آبِقٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا قِيلَ لِيُونُسَ أَبَقَ، لِأَنَّهُ خَرَجَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَتِرًا مِنَ النَّاسِ. "إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ" أي المملوء. "وَالْفُلْكُ" يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَيَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ٢ ص ١٩٤ طبعه ثانية.]]. قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: سَمَّاهُ آبِقًا لِأَنَّهُ أَبَقَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْعُبُودِيَّةُ تَرْكُ الْهَوَى وَبَذْلُ النَّفْسِ عِنْدَ أُمُورِ اللَّهِ، فَلَمَّا لَمْ يبذل النفس عند ما اشتدت عليه العزمة من الملك حسب ما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي [الْأَنْبِيَاءِ]، وَآثَرَ هَوَاهُ لَزِمَهُ اسْمُ الْآبِقِ، وَكَانَتْ عَزْمَةُ الْمَلَكِ فِي أَمْرِ الله لَا فِي أَمْرِ نَفْسِهِ، وَبِحَظِّ حَقِّ اللَّهِ لَا بِحَظِّ نَفْسِهِ، فَتَحَرَّى يُونُسُ فَلَمْ يُصِبِ الصَّوَابَ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ فَسَمَّاهُ آبِقًا وَمُلِيمًا. الثالثة: قوله تعالى: "فَساهَمَ" قل الْمُبَرِّدُ: فَقَارَعَ قَالَ: وَأَصْلُهُ مِنَ السِّهَامِ الَّتِي تُجَالُ. "فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" قَالَ: مِنَ الْمَغْلُوبِينَ. قال القراء: دَحَضَتْ حُجَّتُهُ وَأَدْحَضَهَا اللَّهُ. وَأَصْلُهُ مِنَ الزَّلَقِ، قال الشاعر: قتلنا المدحضين بكل فج ... وفقد قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ أَيِ الْمَغْلُوبِينَ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أَيْ أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الْمَلُومُ فَهُوَ الَّذِي يلام، استحق ذلك أولم يَسْتَحِقَّ. وَقِيلَ: الْمُلِيمُ الْمَعِيبُ. يُقَالُ لَامَ الرَّجُلَ إِذَا عَمِلَ شَيْئًا فَصَارَ مَعِيبًا بِذَلِكَ الْعَمَلِ. "فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ" قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَمْ تُكْسَرْ "أَنَّ" لِدُخُولِ اللَّامِ، لِأَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لَهَا. النَّحَّاسُ: وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ، إِنَّمَا اللَّامُ في جواب لولا. "فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ" أَيْ مِنَ الْمُصَلِّينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ "أَيْ عُقُوبَةً لَهُ، أَيْ يَكُونُ بَطْنُ الْحُوتِ قَبْرًا لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَاخْتُلِفَ كَمْ أَقَامَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. فَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. الضَّحَّاكُ: عِشْرِينَ يَوْمًا. عَطَاءٌ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ. مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: سَاعَةً وَاحِدَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:" لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ- حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ خُذْهُ وَلَا تَخْدِشْ لَحْمًا وَلَا تَكْسِرْ عَظْمًا فَأَخَذَهُ ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ مِنَ الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا فَقَالَ فِي نَفْسِهِ مَا هَذَا؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: "إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ قَالَ:" فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ "قَالَ:" فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ "قَالَ:" ذَلِكَ عَبْدِي يُونُسُ عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ "قَالُوا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الذي كان يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ نَعَمْ. فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَمَرَ الْحُوتَ بِقَذْفِهِ فِي السَّاحِلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَهُوَ سَقِيمٌ". وَكَانَ سَقَمُهُ الَّذِي وَصَفَهُ بِهِ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ أَلْقَاهُ الْحُوتُ عَلَى السَّاحِلِ كَالصَّبِيِّ الْمَنْفُوسِ قَدْ نُشِرَ اللَّحْمُ وَالْعَظْمُ. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ الْحُوتَ سَارَ مَعَ السَّفِينَةِ رَافِعًا رَأْسَهُ يَتَنَفَّسُ فِيهِ يُونُسُ وَيُسَبِّحُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَرِّ، فلفظه سالما لم يغير منه شي فَأَسْلَمُوا، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْبَارِي فِي جِهَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى" فَقِيلَ لَهُ: مَا وَجْهُ الدَّلِيلِ فِي هَذَا الْخَبَرِ؟ فَقَالَ: لَا أَقُولُهُ حَتَّى يَأْخُذَ ضَيْفِي هَذَا أَلْفَ دِينَارٍ يَقْضِي بِهَا دَيْنًا. فَقَامَ رَجُلَانِ فَقَالَا: هِيَ عَلَيْنَا. فَقَالَ لَا يَتْبَعُ بِهَا اثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ. فَقَالَ وَاحِدٌ: هِيَ عَلَيَّ. فَقَالَ: إِنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الْبَحْرِ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ، فَصَارَ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَنَادَى ﴿لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ ﷺ حِينَ جَلَسَ عَلَى الرَّفْرَفِ الْأَخْضَرِ وَارْتَقَى بِهِ صُعُدًا، حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى مَوْضِعٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، ومنا جاه رَبُّهُ بِمَا نَاجَاهُ بِهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ يُونُسَ فِي. بَطْنِ الْحُوتِ فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ. السَّادِسَةُ- ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ: أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَكِبَ فِي السَّفِينَةِ أَصَابَ أَهْلَهَا عَاصِفٌ مِنَ الرِّيحِ، فَقَالُوا: هَذِهِ بِخَطِيئَةِ أَحَدِكُمْ. فَقَالَ يُونُسُ وَعَرَفَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الذَّنْبِ: هَذِهِ خَطِيئَتِي فَأَلْقُونِي فِي الْبَحْرِ، وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى أَفَاضُوا بِسِهَامِهِمْ "فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِذَنْبِي. وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى أَفَاضُوا بِسِهَامِهِمُ الثَّانِيَةَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، وَأَنَّهُمْ أَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ فِي الْبَحْرِ حَتَّى أَعَادُوا سِهَامَهُمُ الثَّالِثَةَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ تَحْتَ اللَّيْلِ فَابْتَلَعَهُ الْحُوتُ. وروى أنه لما ركب في السفينة بقنع ورقد، فساروا غير بعيد إذ جاعتهم رِيحٌ كَادَتِ السَّفِينَةُ أَنْ تَغْرَقَ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ السَّفِينَةِ فَدَعَوْا فَقَالُوا: أَيْقِظُوا الرَّجُلَ النَّائِمَ يَدْعُو مَعَنَا، فَدَعَا اللَّهَ مَعَهُمْ فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ الرِّيحَ، ثُمَّ انْطَلَقَ يُونُسُ إِلَى مَكَانِهِ فرقد، فجاعت رِيحٌ كَادَتِ السَّفِينَةُ أَنْ تَغْرَقَ، فَأَيْقَظُوهُ وَدَعَوُا اللَّهَ فَارْتَفَعَتِ الرِّيحُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ رَفَعَ حُوتٌ عَظِيمٌ رَأْسَهُ إِلَيْهِمْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَلِعَ السَّفِينَةَ، فَقَالَ لَهُمْ يُونُسُ: يَا قَوْمِ! هَذَا مِنْ أَجْلِي فَلَوْ طَرَحْتُمُونِي فِي الْبَحْرِ لَسِرْتُمْ وَلَذَهَبَ الرِّيحُ عَنْكُمْ وَالرَّوْعُ. قَالُوا: لَا نَطْرَحُكَ حَتَّى نَتَسَاهَمَ فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ رَمَيْنَاهُ فِي الْبَحْرِ. قَالَ: فَتَسَاهَمُوا فَوَقَعَ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ اطْرَحُونِي فَمِنْ أَجْلِي أُوتِيتُمْ، فَقَالُوا لَا نَفْعَلُ حَتَّى نَتَسَاهَمَ مَرَّةً أُخْرَى. فَفَعَلُوا فَوَقَعَ: عَلَى يُونُسَ. فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ اطْرَحُونِي فَمِنْ أَجْلِي أُوتِيتُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" أَيْ وَقَعَ السَّهْمُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى صَدْرِ السَّفِينَةِ لِيُلْقُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا الْحُوتُ فَاتِحٌ فَاهُ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ إِلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ، فَإِذَا بِالْحُوتِ، ثُمَّ رَجَعُوا به الى الجانب الأخر بِالْحُوتِ فَاتِحٌ فَاهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَلْقَى بنفسه فألقمه الْحُوتُ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْحُوتِ: إِنِّي لَمْ أَجْعَلْهُ لَكَ رِزْقًا وَلَكِنْ جَعَلْتُ بَطْنَكَ لَهُ وِعَاءً. فَمَكَثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ "أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ" وَقَدْ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي. فَفِي هَذَا مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الْقُرْعَةَ كَانَتْ مَعْمُولًا بِهَا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَجَاءَتْ فِي شَرْعِنَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي "آلِ عِمْرَانَ" [[راجع ج ٤ ص ٨٦ طبعه أولى أو ثانيه.]] قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ وَرَدَتِ الْقُرْعَةُ فِي الشَّرْعِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ، الْأَوَّلُ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نسائه، فائتهم خرج سهمها خرج بها معه، الثاني- أنن النَّبِيَّ ﷺ رُفِعَ إِلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَا مَالَ له فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. الثَّالِثُ- أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ قَدْ دَرَسَتْ فَقَالَ: "اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا وَلْيُحْلِلْ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ". فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاطِنَ، وَهِيَ الْقَسْمُ فِي النِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالْقِسْمَةِ، وَجَرَيَانُ القرعة فيها لرفع الإشكال وجسم داء التشهر. واختلف علماؤنا في القرية بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْغَزْوِ عَلَى قَوْلَيْنِ، الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الْإِقْرَاعُ. وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَذَلِكَ أن السفر بجمعين لَا يُمْكِنُ، وَاخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِيثَارٌ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقُرْعَةُ. وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَعْبُدِ السنة، فإن كل اثنى مِنْهُمَا ثُلُثٌ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ الْعِتْقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَتَعْيِينُهُمَا بِالتَّشَهِّي لَا يَجُوزُ شَرْعًا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقُرْعَةُ. وَكَذَلِكَ التَّشَاجُرُ إِذَا وَقَعَ فِي أَعْيَانِ الْمَوَارِيثِ لَمْ يُمَيِّزِ الْحَقَّ إِلَّا الْقُرْعَةُ فَصَارَتْ أَصْلًا فِي تَعْيِينِ الْمُسْتَحَقِّ إِذَا أَشْكَلَ. قَالَ: وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ تُجْرَى فِي كُلِّ مُشْكِلٍ فَذَلِكَ أَبْيَنُ لَهَا، وَأَقْوَى لِفَصْلِ الْحُكْمِ فِيهَا، وَأَجْلَى لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ عَنْهَا، وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ الْقُرْعَةَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الطَّلَاقِ كَالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْإِمَاءِ في العتق. السابعة- الافتراع عَلَى إِلْقَاءِ الْآدَمِيِّ فِي الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي يُونُسَ وَزَمَانِهِ مُقَدِّمَةً لِتَحْقِيقِ بُرْهَانِهِ، وَزِيَادَةً فِي إِيمَانِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ عَاصِيًا أَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ أَوِ الْبَحْرِ، وَإِنَّمَا تُجْرَى عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالتَّعْزِيرُ عَلَى مِقْدَارِ جِنَايَتِهِ. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْبَحْرَ إِذَا هال على القوم اضطروا إِلَى تَخْفِيفِ السَّفِينَةِ أَنَّ الْقُرْعَةَ تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ فَيُطْرَحُ بَعْضُهُمْ تَخْفِيفًا، وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّهَا لَا تَخِفُّ بِرَمْيِ بَعْضِ الرِّجَالِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ: وَلَكِنَّهُمْ يَصْبِرُونَ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. الثَّامِنَةُ- أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ يُونُسَ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، وَأَنَّ تَسْبِيحَهُ كَانَ سَبَبَ نَجَاتِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ إِذَا عَثَرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مِنَ الْمُسَبِّحِينَ" مِنَ الْمُصَلِّينَ الْمُطِيعِينَ قَبْلَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ وَهْبٌ: مِنَ الْعَابِدِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ لَهُ صَلَاةٌ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ عَمَلًا صَالِحًا فِي حَالِ الرَّخَاءِ فَذَكَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي حَالِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لَيَرْفَعُ صَاحِبَهُ، وَإِذَا عَثَرَ وَجَدَ مُتَّكَأً. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ ﷺ "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَبِيئَةٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ" فَيَجْتَهِدُ العبر، وَيَحْرِصُ عَلَى خَصْلَةٍ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ، يُخْلِصُ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَيَدَّخِرُهَا لِيَوْمِ فَاقَتِهِ وفقره، ويخبؤها بِجَهْدِهِ، وَيَسْتُرُهَا عَنْ خَلْقِهِ، يَصِلُ إِلَيْهِ نَفْعُهَا أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ. وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ وسلم مِنْ حَدِيثِ ابْنُ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ- فِي رِوَايَةٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ الْغَارِ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أعمالا عملتموها صالحه لله بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا عَنْكُمْ" الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ، شُهْرَتُهُ أَغْنَتْ عَنْ تَمَامِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمَّا قَالَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ "لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" قَذَفَهُ الْحُوتُ. وَقِيلَ: "مِنَ الْمُسَبِّحِينَ" مِنَ الْمُصَلِّينَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَسْبِيحُ اللِّسَانِ الْمُوَافِقُ لِلْجَنَانِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ قَبْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. قَالَ: فَسَبَّحَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. قَالَ: فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا إِنَّا نسمع صوتا ضفيفا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ. وَتَكُونُ "كانَ" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ زَائِدَةً أَيْ فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "دعاه ذِي النُّونِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ" لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ "لم يدع به رجل مسلم في شي قط الا استجب لَهُ" وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَةِ "الْأَنْبِيَاءِ" [[راجع ج ١١ ص ٣٢٩ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.]] فَيُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَبْلُ مُصَلِّيًا مُسَبِّحًا، وَفِي بَطْنِ الْحُوتِ كَذَلِكَ. وَفِي الْخَبَرِ: فَنُودِيَ الْحُوتُ، إِنَّا لَمْ نَجْعَلْ يُونُسَ لَكَ رِزْقًا، إِنَّمَا جَعَلْنَاكَ لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب