الباحث القرآني

فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى ﴾ أَخْبَرَنَا تَعَالَى بِإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى رَدًّا عَلَى الْكَفَرَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ: أَيْ نُحْيِيهِمْ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ الْجَهْلِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ أَيْ نُحْيِيهِمْ بِالْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِذِكْرِهِ كَتْبَ الْآثَارِ وَهِيَ الثانية- وإحصاء كل شي وَكُلِّ مَا يَصْنَعُهُ الْإِنْسَانُ. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مِنْ عَمَلٍ. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَنَظِيرُهُ قوله: "عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ": [الانفطار: ٥] وقوله: ﴿يُنَبَّأْ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [الْقِيَامَةِ: ١٣]، وَقَالَ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨] فَآثَارُ الْمَرْءِ الَّتِي تَبْقَى وَتُذْكَرُ بَعْدَ الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ يُجَازَى عَلَيْهَا: مِنْ أَثَرٍ حَسَنٍ، كَعِلْمٍ عَلَّمُوهُ، أَوْ كِتَابٍ صَنَّفُوهُ، أَوْ حَبِيسٍ احْتَبَسُوهُ، أَوْ بِنَاءٍ بَنَوْهُ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. أَوْ سَيِّئٍ كَوَظِيفَةٍ وَظَّفَهَا بَعْضُ الظُّلَّامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَسَكَّةٍ أَحْدَثَهَا فِيهَا تَخْسِيرُهُمْ، أَوْ شي أَحْدَثَهُ فِيهِ صَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ أَلْحَانٍ وَمَلَاهٍ، وَكَذَلِكَ كُلُّ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ، أَوْ سيئة يستن بها. وقيل: هي آثار المشاءين إِلَى الْمَسَاجِدِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَأَوَّلَ الْآيَةَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَى: "وَآثَارُهُمْ" خُطَاهُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بَعِيدَةً عَنِ الْمَسْجِدِ. وَفِي الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "يُكْتَبُ لَهُ بِرِجْلٍ حَسَنَةٌ وَتُحَطُّ عَنْهُ بِرِجْلٍ سَيِّئَةٌ ذَاهِبًا وراجعا إذ اخرج إِلَى الْمَسْجِدِ". قُلْتُ: وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَتْ بَنُو سَلِمَةَ [[سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار.]] فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ فَأَرَادُوا النُّقْلَةَ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ فنزلت هذه الآية: "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ" فَلَمْ يَنْتَقِلُوا. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ [[الزيادة من صحيح الترمذي.]] غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: وَالْبِقَاعُ خَالِيَةٌ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: "يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ" فَقَالُوا: مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: مَشَيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْرَعْتُ، فَحَبَسَنِي فَلَمَّا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَسْرَعْتُ، فَحَبَسَنِي فَلَمَّا انْقَضَتِ الصَّلَاةُ قال: "أما علم أَنَّ الْآثَارَ تُكْتَبُ" فَهَذَا احْتِجَاجٌ بِالْآيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: الْآثَارُ فِي هَذِهِ الآية الخطا. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْآثَارُ هي الخطا إِلَى الْجُمُعَةِ. وَوَاحِدُ الْآثَارِ أَثَرٌ وَيُقَالُ أَثْرٌ. الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُفَسِّرَةِ لِمَعْنَى الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبُعْدَ مِنَ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، فَلَوْ كَانَ بِجِوَارِ مَسْجِدٍ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَهُ إِلَى الْأَبْعَدِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يُجَاوِزُ الْمُحْدَثَ إِلَى الْقَدِيمِ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ: الْأَبْعَدُ فَالْأَبْعَدُ مِنَ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ أَجْرًا. وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ هَذَا، وَقَالَ: لَا يَدَعُ مَسْجِدًا قُرْبَهُ وَيَأْتِي غَيْرَهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَفِي تَخَطِّي مَسْجِدِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ قَوْلَانِ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:" صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ [[يجمع (بالتشديد) من التجمع، أي يصلى فيه الجمعة.]] فيه بخمسمائة صلاة". "دِيَارَكُمْ" مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيِ الْزَمُوا وَ "نَكْتُبُ" جَزْمٌ عَلَى جَوَابِ ذَلِكَ الْأَمْرِ. "وكُلَّ" نُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ "أَحْصَيْناهُ" كَأَنَّهُ قَالَ: وأحصينا كل شي أَحْصَيْنَاهُ. وَيَجُوزُ رَفْعُهُ بِالِابْتِدَاءِ إِلَّا أَنَّ نَصْبَهُ أَوْلَى، لِيُعْطَفَ مَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ عَلَى مَا عَمِلَ فِيهِ الْفِعْلُ. وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ. وَالْإِمَامُ: الْكِتَابُ الْمُقْتَدَى بِهِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَرَادَ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب