الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ هُمْ قُرَيْشٌ أَقْسَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ، حِينَ بَلَغَهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَلَعَنُوا مَنْ كَذَّبَ نَبِيَّهُ مِنْهُمْ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أَيْ نَبِيٌّ (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يَعْنِي مِمَّنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ رَسُولٌ كَمَا كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا تَمَنَّوْهُ وَهُوَ النَّذِيرُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، نَفَرُوا عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. (اسْتِكْباراً) أَيْ عُتُوًّا عَنِ الْإِيمَانِ (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أَيْ مَكْرَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَخَدْعُ الضُّعَفَاءِ، وَصَدُّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لِيَكْثُرَ أَتْبَاعُهُمْ. وَأَنَّثَ "مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ" لِتَأْنِيثِ أُمَّةٍ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَخْفَشُ "وَمَكْرُ السَّيِّئْ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ" فَحَذَفَ الْإِعْرَابَ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَثْبَتَهُ فِي الثَّانِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ لَحْنٌ، وَإِنَّمَا صَارَ لَحْنًا لِأَنَّهُ حَذَفَ الْإِعْرَابَ مِنْهُ. وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي كَلَامٍ وَلَا فِي شِعْرٍ، لِأَنَّ حَرَكَاتَ الْإِعْرَابِ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، لِأَنَّهَا دَخَلَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعَانِي. وَقَدْ أَعْظَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَشُ عَلَى جَلَالَتِهِ وَمَحَلِّهِ يَقْرَأُ بِهَذَا، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ، فَغَلِطَ مَنْ أَدَّى عَنْهُ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَمَامَ الْكَلَامِ أُعْرِبَ بِاتِّفَاقٍ، وَالْحَرَكَةُ فِي الثَّانِي أَثْقَلُ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا ضَمَّةٌ بَيْنَ كَسْرَتَيْنِ. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ لِحَمْزَةَ فِي هَذَا بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَأَنَّهُ أَنْشَدَ هُوَ وَغَيْرُهُ: إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوِّمِ [[تمامه: بالدو أمثال السفين العوم الدو: الصحراء. وأمثال السفين، رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفين البحر.]] وَقَالَ الآخر: فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ ولا واغل [[البيت لامرئ القيس. والمستحقب: المكتسب للإثم الحامل له. والواغل: الداخل على القوم يشربون ولم يدع. قال هذا حين قتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به فلما أخذ ثأره حلت له يزعمه فلا يأثم في شربها إذ قد وفى بنذره فيها.]] وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ لَمْ يُجِزْهُ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، وَالْحَدِيثُ إِذَا قِيلَ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الشُّذُوذِ وَلِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَقَدْ خُولِفَ فِيهِ. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَنْشَدَهُ: إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِ قَوِّمِ وَأَنَّهُ أَنْشَدَ: فَالْيَوْمَ اشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ بِوَصْلِ الْأَلِفِ عَلَى الْأَمْرِ، ذَكَرَ جَمِيعَهُ النَّحَّاسُ. الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ حَمْزَةُ "وَمَكْرَ السَّيِّئْ" بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ لِاسْتِثْقَالِهِ الْحَرَكَاتِ، وَلَعَلَّهُ اخْتَلَسَ فَظَنَّ سُكُونًا، أَوْ وَقَفَ وَقْفَةً خَفِيفَةً ثُمَّ ابْتَدَأَ "وَلا يَحِيقُ". وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ "وَمَكْرًا سَيِّئًا" وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ سَكَّنَ الْهَمْزَةَ مِنْ قَوْلِهِ: "وَمَكْرَ السَّيِّئِ" فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَسْكَنَ الْهَمْزَةَ لِتَوَالِي الْكَسَرَاتِ وَالْيَاءَاتِ، كَمَا قَالَ: فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَرَأَ حَمْزَةُ "وَمَكْرَ السَّيِّئْ" بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَخَطَّأَهُ أَقْوَامٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَعَلَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، فَغَلِطَ الرَّاوِي وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْإِدْرَاجِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي أَمْثَالِ هَذَا، وَقُلْنَا: مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوِ التَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَازِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَحْنٌ، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ صَارَ إِلَى التَّخْطِئَةِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْصَحُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فَصِيحًا. "وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" أَيْ لَا يَنْزِلُ عَاقِبَةُ الشِّرْكِ إِلَّا بِمَنْ أَشْرَكَ. وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَتْلِهِمْ بِبَدْرٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وقد دفعوا المنية فاستقلت ... ذراعا بعد ما كَانَتْ تَحِيقُ أَيْ تَنْزِلُ، وَهَذَا قَوْلُ قُطْرُبٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: "يَحِيقُ" بِمَعْنَى يُحِيطُ. وَالْحَوْقُ الْإِحَاطَةُ، يُقَالُ: حَاقَ بِهِ كَذَا أَيْ أَحَاطَ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لَهُ: إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ "مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ حُفْرَةً وَقَعَ فِيهَا"؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِّي أُوجِدُكَ فِي الْقُرْآنِ ذَلِكَ. قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فَاقْرَأْ (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ "مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا" وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"، وَلَا تَبْغِ وَلَا تُعِنْ بَاغِيًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ﴾ [الفتح: ١٠] وقال تعالى: ﴿إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ﴾ [يونس: ٢٣] وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: يَا أَيُّهَا الظَّالِمُ فِي فِعْلِهِ ... وَالظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ ظَلَمْ إِلَى مَتَى أَنْتَ وَحَتَّى مَتَى ... تُحْصِي الْمَصَائِبَ وَتَنْسَى النِّعَمْ وَفِي الْحَدِيثِ (الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ). فَقَوْلُهُ: (فِي النَّارِ) يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ تُدْخِلُ أَصْحَابَهَا فِي النَّارِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَخْلَاقِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَخْيَارِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ: (وَلَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِيَانَةُ). وَفِي هَذَا أَبْلَغُ تَحْذِيرٍ عَنِ التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْخُرُوجِ عَنْ أَخْلَاقِ الْإِيمَانِ الْكَرِيمَةِ. قوله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أَيْ إِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ الْعَذَابَ الَّذِي نَزَلَ بالكفار الأولين. (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) أَيْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَذَابَ عَلَى الكفار، ويجعل ذَلِكَ سُنَّةً فِيهِمْ، فَهُوَ يُعَذِّبُ بِمِثْلِهِ مَنِ اسْتَحَقَّهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ ذَلِكَ، وَلَا أَنْ يُحَوِّلَ الْعَذَابَ عَنْ نَفْسِهِ إِلَى غَيْرِهِ. وَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ، وَالْجَمْعُ سُنَنٌ. وَقَدْ مَضَى فِي "آلِ عِمْرَانَ" [[راجع ج ٤ ص ٢١٦.]] وَأَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا" [[راجع ج ١٠ ص ٣٠٢.]] فَأَضَافَ إِلَى الْقَوْمِ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ كَالْأَجَلِ، تَارَةً يُضَافُ إِلَى اللَّهِ، وَتَارَةً إِلَى الْقَوْمِ، قَالَ الله تعالى: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾[[راجع ج ١٣ ص ٣٢٦.]] [العنكبوت: ٥] وقال: ﴿فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ﴾ [النحل: ٦١].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب