الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: "تُصَاعِرْ" بِالْأَلِفِ بَعْدَ الصَّادِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: "تُصَعِّرْ" وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: "تُصْعِرْ" بِسُكُونِ الصَّادِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَالصَّعَرُ: الْمَيَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ: وَقَدْ أَقَامَ الدَّهْرُ صَعَرِي، بَعْدَ أَنْ أَقَمْتُ صَعَرَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيِّ: وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ [[يريد: فتقوم أنت.]] وَأَنْشَدَهُ الطَّبَرِيُّ: "فَتَقَوَّمَا". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ قَافِيَةَ الشِّعْرِ مَخْفُوضَةٌ [[قبل هذا البيت كما في معجم العراء للمرزباني: نعاطى الملوك الحق ما قصدوا بنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم قال المرزباني: وهذا البيت- بيت الشاهد- يروى من قصيدة المتلمس التي أولها: يعيرني أمي رجال ولن ترى ... أخا كرم إلا بأن يتكرما]]. وَفِي بَيْتٍ آخَرَ: أَقَمْنَا لَهُ مِنْ خَدِّهِ الْمُتَصَعِّرِ قَالَ الهروي: "لا تُصَاعِرْ" أَيْ لَا تُعْرِضُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ، يُقَالُ: أَصَابَ الْبَعِيرَ صَعَرٌ وَصَيَدٌ إِذْ أَصَابَهُ دَاءٌ يَلْوِي مِنْهُ عُنُقَهُ. ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُتَكَبِّرِ: فِيهِ صَعَرٌ وَصَيَدٌ، فَمَعْنَى: "لَا تُصَعِّرْ" أَيْ لَا تُلْزِمْ خَدّكَ الصَّعَرَ. وَفِي الْحَدِيثِ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا أَصْعَرُ أو أبتر) وَالْأَصْعَرُ: الْمُعْرِضُ بِوَجْهِهِ كِبْرًا، وَأَرَادَ رُذَالَةَ النَّاسِ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: (كُلُّ صَعَّارٍ مَلْعُونٌ) أَيْ كُلُّ ذِي أُبَّهَةٍ وَكِبْرٍ. الثَّانِيَةُ- مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا تُمِلْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ كِبْرًا عَلَيْهِمْ وَإِعْجَابًا وَاحْتِقَارًا لَهُمْ. وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ أَنْ تَلْوِيَ شِدْقَكَ إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ عِنْدَكَ كَأَنَّكَ تَحْتَقِرُهُ، فَالْمَعْنَى: أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا، وَإِذَا حَدَّثَكَ أَصْغَرُهُمْ فَأَصْغِ إِلَيْهِ حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ. وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَفْعَلُ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى [[في ج (ومن هذا الباب).]] مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ). فَالتَّدَابُرُ الْإِعْرَاضُ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ وَنَحْوِهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْإِعْرَاضِ تَدَابُرٌ لِأَنَّ مَنْ أَبْغَضْتُهُ أَعْرَضْتَ عَنْهُ وَوَلَّيْتُهُ دُبُرَكَ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ هُوَ بِكَ. وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ بِوَجْهِكَ وَوَاجَهْتَهُ لِتُسِرَّهُ وَيُسِرَّكَ، فَمَعْنَى التَّدَابُرِ مَوْجُودٌ فِيمَنْ صَعَّرَ خَدَّهُ، وَبِهِ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: قَوْلُهُ: "وَلَا تُصَاعِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ" كَأَنَّهُ نَهَى أَنْ يُذِلَّ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ). الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً﴾ أَيْ مُتَبَخْتِرًا مُتَكَبِّرًا، مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ مَضَى فِي "سُبْحَانَ" [[راجع ج ١٠ ص ٢٦٠.]]. وَهُوَ النَّشَاطُ وَالْمَشْيُ فَرَحًا فِي غَيْرِ شُغْلٍ وَفِي غَيْرِ حَاجَةٍ. وَأَهْلُ هَذَا الْخُلُقِ مُلَازِمُونَ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، فَالْمَرِحُ مُخْتَالٌ فِي مِشْيَتِهِ. رَوَى يحيى ابن جَابِرٍ الطَّائِيُّ عَنِ ابْنِ عَائِذٍ الْأَزْدِيِّ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ [[ورد هذا الاسم مضطربا في نسخ الأصل. والتصويب عن تهذيب التهذيب.]] قَالَ: فَجَلَسْنَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ الْقَبْرَ يُكَلِّمُ العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي بَيْتُ الْوَحْدَةِ! أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي بَيْتُ الظُّلْمَةِ! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي! لَقَدْ كُنْتَ تَمْشِي حولي فَدَّادًا. قَالَ ابْنُ عَائِذٍ قُلْتُ لِغُضَيْفٍ: مَا الْفَدَّادُ يَا أَبَا أَسْمَاءَ؟ قَالَ: كَبَعْضِ مِشْيَتِكَ يا ابن أَخِي أَحْيَانًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْمَعْنَى ذَا مَالٍ كَثِيرٍ وَذَا خُيَلَاءَ. وَقَالَ ﷺ: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وَالْفَخُورُ: هُوَ الَّذِي يُعَدِّدُ مَا أُعْطِيَ وَلَا يَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَفِي اللَّفْظَةِ الْفَخْرُ بِالنَّسَبِ وغير ذلك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب