الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ﴾ الْخِطَابُ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ لِأَهْلِ نَجْرَانَ. وَفِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ، خُوطِبُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَحْبَارَهُمْ فِي الطَّاعَةِ لَهُمْ كَالْأَرْبَابِ. وَقِيلَ: هُوَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا. وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى هِرَقْلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ] [[زيادة عن صحيح مسلم.]] أسلم تسلم [وَأَسْلِمْ] [[زيادة عن صحيح مسلم.]] يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ [[الأريسيين: الأكارون والفلاحون والخدم، والخول، كل ذلك وارد في معنى هذه الكلمة.]]، وَيَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ- إِلَى قَوْلِهِ: "فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ". لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَالسَّوَاءُ الْعَدْلُ وَالنَّصَفَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَرُونِي خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ فِي مَعْنَى الْعَدْلِ سِوًى وَسُوًى، فَإِذَا فَتَحْتَ السِّينَ مَدَدْتَ وَإِذَا كَسَرْتَ أَوْ ضَمَمْتَ قصرت، كقوله تعالى: ﴿مَكاناً سُوىً﴾ [طه: ٥٨]. قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ "إِلَى كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ" وَقَرَأَ قَعْنَبٌ [[هو أبو السمان العدوى.]] "كِلْمَةٍ" بِإِسْكَانِ اللَّامِ، أَلْقَى حَرَكَةَ اللَّامِ عَلَى الْكَافِ، كَمَا يُقَالُ كِبْدٌ. فَالْمَعْنَى أَجِيبُوا إِلَى مَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْكَلِمَةُ الْعَادِلَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ، وَقَدْ فَسَّرَهَا بقَوْلِهِ تَعَالَى: "أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ" فَمَوْضِعُ "أَنْ" خُفِضَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ "كَلِمَةٍ"، أَوْ رُفِعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، التَّقْدِيرُ هِيَ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ. أَوْ تَكُونُ مُفَسِّرَةً لَا مَوْضِعَ لَهَا، وَيَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ فِي "نَعْبُدَ" وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ الرَّفْعُ وَالْجَزْمُ: فَالْجَزْمُ عَلَى أَنْ تَكُونَ "أَنْ" مُفَسِّرَةً بِمَعْنَى أَيْ، كَمَا قال عز وجل: ﴿أَنِ امْشُوا﴾ [ص: ٦] وَتَكُونُ "لَا" جَازِمَةً. هَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ تَرْفَعَ "نَعْبُدُ" وَمَا بَعْدَهُ يَكُونُ خَبَرًا. وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا نَعْبُدُ، وَمِثْلُهُ ﴿أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً﴾ [طه: ٨٩] [[راجع ج ١١ ص ٢٣٦.]]. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: "وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ" بِالْجَزْمِ عَلَى التَّوَهُّمِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنْ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي لا نتبعه في تحليل شي أَوْ تَحْرِيمِهِ إِلَّا فِيمَا حَلَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣١] [[راجع ج ٨ ص ١١٩.]] مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ رَبِّهِمْ فِي قَبُولِ تَحْرِيمِهِمْ وَتَحْلِيلِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَلَمْ يُحِلَّهُ اللَّهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، قَالَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ: مِثْلَ اسْتِحْسَانَاتِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا دُونَ مُسْتَنَدَاتٍ بَيِّنَةٍ. وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: يجب قبول [قول] الامام دون إبانة مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّهُ يُحِلُّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدًا مِنَ الشَّرِيعَةِ. وَأَرْبَابٌ جَمْعُ رَبٍّ. وَ "دُونِ" هُنَا بِمَعْنَى غَيْرِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أَيْ أَعْرَضُوا عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ. (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أَيْ مُتَّصِفُونَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ مُنْقَادُونَ لِأَحْكَامِهِ معترفون بما لله عليه عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمِنَنِ وَالْإِنْعَامِ، غَيْرُ مُتَّخِذِينَ أَحَدًا رَبًّا لَا عِيسَى وَلَا عُزَيْرًا ولا الملائكة، لأنهم بشر مثلنا محدث كحدثنا، وَلَا نَقْبَلُ مِنَ الرُّهْبَانِ شَيْئًا بِتَحْرِيمِهِمْ عَلَيْنَا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَنَكُونُ قَدِ اتَّخَذْنَاهُمْ أَرْبَابًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَى يَتَّخِذَ" يَسْجُدُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّجُودَ كَانَ إِلَى زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذًا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ، كَمَا مَضَى فِي الْبَقَرَةِ [[راجع ج ١ ص ٢٩٣.]] بَيَانُهُ. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَنْحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ؟ قَالَ (لَا) قُلْنَا: أَيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضًا؟ قَالَ (لَا وَلَكِنْ تَصَافَحُوا) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وسيأتي لهذا المعنى زيادة ببان فِي سُورَةِ "يُوسُفَ" [[راجع ج ٩ ص ٢٦٥.]] [إِنْ [[الزيادة من نسخ: ز، ب.]] شَاءَ اللَّهُ]، وَفِي "الْوَاقِعَةِ" [[إيراد هذه الجملة هنا غير واضح المناسبة.]] مَسُّ الْقُرْآنِ أَوْ بَعْضِهِ عَلَى غَيْرِ طهارة إن شاء الله تعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب