الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى (إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) الْعَامِلُ فِي "إِذْ" مَكَرُوا، أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَالْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ" عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ الرُّتْبَةَ. وَالْمَعْنَى: إِنَى رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ أَنْ تَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ، كقوله: ﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه: ١٢٩] [[راجع ج ١١ ص ٢٦٠.]]، وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لكان لزاما. قال الشاعر: أَلَا يَا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ... عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ أَيْ عَلَيْكِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ الله. وقال الحسن وابن جريح: مَعْنَى مُتَوَفِّيكَ قَابِضُكَ وَرَافِعُكَ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْتٍ، مِثْلَ تَوَفَّيْتُ مَالِي مِنْ فُلَانٍ أَيْ قَبَضْتُهُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: تَوَفَّى اللَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّهُ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نُزُولُهُ وَقَتْلُهُ الدَّجَّالَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُتَوَفِّيكَ قَابِضُكَ، وَمُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَاحِدٌ وَلَمْ يَمُتْ بَعْدُ. وَرَوَى ابْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابن عباس معنى متوفيك مميتك. الربيع ابن أَنَسٍ: وَهِيَ وَفَاةُ نَوْمٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الانعام: ٦٠] [[راجع ج ٧ ص ٥.]] أَيْ يُنِيمُكُمْ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ ﷺ لَمَّا سُئِلَ: أَفِي الْجَنَّةِ نَوْمٌ؟ قَالَ: (لَا، النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَالْجَنَّةُ لَا مَوْتَ فِيهَا). أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ وَفَاةٍ وَلَا نَوْمٍ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ الضَّحَّاكُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتِ الْقِصَّةُ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَ عِيسَى اجْتَمَعَ الْحَوَارِيُّونَ فِي غُرْفَةٍ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَدَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسِيحُ مِنْ مِشْكَاةِ الْغَرْفَةِ، فَأَخْبَرَ إِبْلِيسُ جَمْعَ الْيَهُودِ فَرَكِبَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ فَأَخَذُوا بَابَ الْغَرْفَةِ. فَقَالَ الْمَسِيحُ لِلْحَوَارِيِّينَ: أَيُّكُمْ يَخْرُجُ وَيُقْتَلُ وَيَكُونُ مَعِي فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَلْقَى إِلَيْهِ مِدْرَعَةً [[المدرعة (بالكسر): الدراعة وهى ثوب من كتان؟.]] مِنْ صُوفٍ وَعِمَامَةً مِنْ صُوفٍ وَنَاوَلَهُ عُكَّازَهُ وَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، فَخَرَجَ عَلَى الْيَهُودِ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ. وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَكَسَاهُ اللَّهُ الرِّيشَ وَأَلْبَسَهُ النُّورَ وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ فَطَارَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ سَيَكْفُرُ بِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ فَقَالَ أَنَا. فَقَالَ عِيسَى: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ أَنَا. فَقَالَ عِيسَى: اجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ أَنَا. فَقَالَ نَعَمْ أَنْتَ ذَاكَ. فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ: وَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ [[الروزنة: الكوة.]] كَانَتْ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخَذُوا الشَّبِيهَ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ، وَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ، فَتَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: قَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا اللَّهُ مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَّةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ. فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ فَقَتَلُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الصف: ١٤] [[راجع ج ١٨ ص ٩٠.]] أَيْ آمَنَ آبَاؤُهُمْ فِي زَمَنِ عِيسَى "عَلى عَدُوِّهِمْ" بِإِظْهَارِ دِينِهِمْ عَلَى دِينِ الْكُفَّارِ "فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَاللَّهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ [[القلاص (بالكسر): جمع قلوص وهى الناقة الشابة.]] فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ (. وَعَنْهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:) وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ [[فج الروحاء: طريق بين مكة والمدينة، كان طريق رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بدر وإلى مكة عام الفتح وعام الحج. (عن معجم ياقوت).]] حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيُثَنِّيَنَّهُمَا) وَلَا يَنْزِلُ بِشَرْعٍ مُبْتَدَأٍ فَيَنْسَخُ بِهِ شَرِيعَتَنَا بَلْ يَنْزِلُ مُجَدِّدًا لِمَا دَرَسَ مِنْهَا متبعا. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ). وَفِي رِوَايَةٍ: (فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ). قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: تَدْرِي مَا أَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟. قُلْتُ: تُخْبِرُنِي. قَالَ: فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ ﷺ. وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَابَ بَيَانًا فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَ "مُتَوَفِّيكَ" أَصْلُهُ متوفيك حذفت الضمة استثقالا، وَهُوَ خَبَرُ إِنَّ. "وَرافِعُكَ" عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا "مُطَهِّرُكَ" وَكَذَا "وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ". وَيَجُوزُ" وَجاعِلُ [[كذا في بعض الأصول وكتاب إعراب القرآن للنحاس. وفى ز: وجعل.]] الَّذِينَ "وَهُوَ الْأَصْلُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ عِنْدَ قَوْلِهِ:" وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا". قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ. "وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ" يَا مُحَمَّدُ "فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا" أَيْ بِالْحُجَّةِ وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ. وَقِيلَ بِالْعِزِّ وَالْغَلَبَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ ومحمد ابن أبان: المراد الحواريون. والله تعالى أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب