الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "فَنَادَاهُ" بِالْأَلِفِ عَلَى التَّذْكِيرِ، وَيُمِيلَانِهَا لِأَنَّ أَصْلَهَا الْيَاءُ، وَلِأَنَّهَا رَابِعَةٌ. وَبِالْأَلِفِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ الْمَلَائِكَةَ فِي [كُلِّ] [[زيادة عن إعراب القرآن للنحاس.]] الْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: نَرَاهُ اخْتَارَ ذَلِكَ خِلَافًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا احْتِجَاجٌ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شي، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قَالَتِ الرِّجَالُ، وَقَالَ الرِّجَالُ، وَكَذَا النِّسَاءُ، وَكَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ بِهَذَا لَجَازَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ" وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾ [الزخرف: ١٩] [[راجع ج ١٦ ص ٧٣.]] أَيْ فَلَمْ يُشَاهِدُوا، فَكَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ إِنَاثٌ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا ظَنٌّ وَهَوًى. وَأَمَّا "فَنَادَاهُ" فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ، "وَنَادَتْهُ" عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَالْمَلَائِكَةُ مِمَّنْ يُعْقَلُ فِي التَّكْسِيرِ فَجَرَى فِي التَّأْنِيثِ مَجْرَى مَا لَا يَعْقِلُ، تَقُولُ: هِيَ الرِّجَالُ، وَهِيَ الْجُذُوعُ، وَهِيَ الْجِمَالُ، وَقَالَتِ الْأَعْرَابُ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ" وَقَدْ ذَكَرَ فِي موضع آخر فقال: ﴿وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ﴾ [الانعام: ٩٣] [[راجع ج ٧ ص ٣٩.]] وَهَذَا إِجْمَاعٌ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ﴾ [الرعد: ٢٣] [[راجع ج ٩ ص ٣١٢.]] فَتَأْنِيثُ هَذَا الْجَمْعِ وَتَذْكِيرُهُ حَسَنَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَادَاهُ جِبْرِيلُ وَحْدَهُ، وَكَذَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي التَّنْزِيلِ "يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ" [[راجع ج ١٠ ص ٦٧.]] يَعْنِي جِبْرِيلَ، وَالرُّوحُ الْوَحْيُ. وَجَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] [[راجع ص ٢٧٩ من هذا الجزء.]] يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: نَادَاهُ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ جاء النداء من قبلهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ "وَهُوَ قائِمٌ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُ "يُصَلِّي" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمُضْمَرِ. "أَنَّ اللَّهَ" أَيْ بِأَنَّ اللَّهَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ [[كذا في الأصل وإعراب القرآن للنحاس، والذي في البحر وغرائب القرآن للنيسابوري وابن عطية: وقرا ابن عامر وحمزة إن الله" بكسر الهمزة، وقرا الباقون بفتح الهمزة.]] "إِنَّ" أَيْ قَالَتْ إِنَّ اللَّهَ، فَالنِّدَاءُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ. "يُبَشِّرُكَ" بِالتَّشْدِيدِ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ "يَبْشُرُكَ" مُخَفَّفًا، وَكَذَلِكَ حُمَيْدُ بْنُ الْقَيْسِ الْمَكِّيُّ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الشِّينَ وَضَمَّ الْيَاءَ وَخَفَّفَ الْبَاءَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. دَلِيلُ الْأُولَى هِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا مِنْ فِعْلٍ مَاضٍ أَوْ أَمْرٍ فَهُوَ بِالتَّثْقِيلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ﴾ [الزمر: ١٧] [[راجع ج ١٥ ص ٢٤٣ وص ١١ وص ١١٢. وفى أكثر الأصول: "عبادي" بالياء وهو رسم ورش في مصاحب المغرب.]] ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ﴾ [يس: ١١] ﴿فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ﴾ [هود: ٧١] [[راجع ج ٩ ص ٦٩.]] ﴿قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ﴾ [الحجر: ٥٥] [[راجع ج ١٠ ص ٣٥.]]. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَهِيَ مِنْ بَشَرَ [[كذا في الأصول والبغوي. والذي في البحر وابن عطية: "وفى قراءة عبد الله بن مسعود يبشرك بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من أبشر، وهكذا قرأ في كل القرآن".]] يَبْشُرُ وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
وَقَالَ آخَرُ [[هو عطية بن زيد، وقال ابن برى هو لعبد القيس بن خفاف البرجمي.
(عن اللسان).]]:
وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَاهِشِينَ» إِلَى النَّدَى ... غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلٍ
فَأَعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ ... وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهِيَ مِنْ أَبْشَرَ يُبْشِرُ إِبْشَارًا قَالَ:
يَا أُمَّ عَمْرٍو أَبْشِرِي بِالْبُشْرَى ... مَوْتٍ ذَرِيعٍ وَجَرَادٍ عَظْلَى [[جراد عاظلة وعظلى: لا تبرح. في اللسان: "أراد أن يقول: يا أم عامر فلم يستقيم له البيت فقال يا أم عمرو، وام عامر كنية الضج: ومن كلامهم للضبع: أبشري بجراد عظلى، وكم رجال قتلى".]]
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِيَحْيى﴾ كَانَ اسْمُهُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ حَيَّا، وَكَانَ اسْمُ سَارَّةَ زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسَارَةَ، وَتَفْسِيرُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ لَا تَلِدُ، فَلَمَّا بُشِّرَتْ بِإِسْحَاقَ قِيلَ لها: سارة، سماها بِذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ لِمَ نَقَصَ مِنَ اسْمِي حَرْفٌ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَقَالَ: (إِنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ زِيدَ فِي اسْمِ ابْنٍ لَهَا مِنْ أفضل الأنبياء اسمه حيي وَسُمِّيَ بِيَحْيَى). ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سُمِّيَ بِيَحْيَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا بِهِ النَّاسَ بِالْهُدَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اشْتُقَّ اسْمُهُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَيٍّ فَسُمِّيَ يَحْيَى. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَحْيَا بِهِ رَحِمَ أُمِّهِ.
(مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) يَعْنِي عِيسَى فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَسُمِّيَ عِيسَى كَلِمَةً لِأَنَّهُ كَانَ بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ "كُنْ" فَكَانَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ "بِكَلِمَةٍ" مَكْسُورَةِ الْكَافِ سَاكِنَةِ اللَّامِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ مِثْلَ كِتْفٍ وَفَخْذٍ. وَقِيلَ: سُمِّيَ كَلِمَةً لِأَنَّ النَّاسَ يَهْتَدُونَ بِهِ كَمَا يَهْتَدُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَعْنَى "بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ" بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ. قَالَ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ أَنْشَدَنِي كَلِمَةً أَيْ قَصِيدَةً، كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحُوَيْدِرَةَ [[الحويدرة تصغير الحادرة وهو لقب غلب عليه، واسمه قطبة بن محصن بن جرول. ويعنى حسان بن ثابت رضى الله عنه قصيدته التي مطلعها: بكرت سمية غدونا فتمتعي وغدت غدو مفارق لم يربع.
(راجع المفضليات ص ٤٨ طبع أوروبا وكتاب الأغاني ج ٣ ص ٢٧٠ طبع دار الكتب المصرية (.) (]] ذُكِرَ لِحَسَّانَ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ كَلِمَتَهُ، يَعْنِي قَصِيدَتَهُ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أشهر وعليه من العلماء الأكثر. و "بِيَحْيى " أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَصَدَّقَهُ، وَكَانَ يَحْيَى أَكْبَرَ مِنْ عِيسَى بِثَلَاثِ سِنِينَ وَيُقَالُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَكَانَا ابْنَيْ خَالَةٍ، فَلَمَّا سَمِعَ زَكَرِيَّا شَهَادَتَهُ قَامَ إِلَى عِيسَى فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي خِرْقِهِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ مَرْيَمَ لَمَّا حَمَلَتْ بِعِيسَى حَمَلَتْ أَيْضًا أُخْتُهَا بِيَحْيَى، فَجَاءَتْ أُخْتُهَا زَائِرَةً فَقَالَتْ: يَا مَرْيَمُ أَشَعَرْتِ أَنِّي حَمَلْتُ؟ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: أَشَعَرْتِ أَنْتِ أَنِّي حَمَلْتُ؟ فَقَالَتْ لَهَا: وَإِنِّي لَأَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا أَحَسَّتْ جَنِينَهَا يَخِرُّ بِرَأْسِهِ إِلَى نَاحِيَةِ بَطْنِ مَرْيَمَ. قَالَ السُّدِّيُّ: فذلك قول "مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ". و "مُصَدِّقاً" نصب على الحال. و (سَيِّداً) السَّيِّدُ: الَّذِي يَسُودُ قَوْمَهُ وَيُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ، وأصله سيود يقال: فلان أسود من فلان، أفعل من السيارة، فَفِيهِ دِلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْإِنْسَانِ سَيِّدًا كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى عَزِيزًا أَوْ كَرِيمًا. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ). وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي الْحَسَنِ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وَكَذَلِكَ كَانَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَايَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَكَثِيرٌ مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْ أَبِيهِ وَمِمَّنْ نَكَثَ بَيْعَتَهُ، فَبَقِيَ نَحْوَ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ خَلِيفَةً بِالْعِرَاقِ وَمَا وَرَاءَهَا مِنْ خُرَاسَانَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَسَارَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ "مَسْكِنٌ" مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ بِنَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ كَرِهَ الْحَسَنُ الْقِتَالَ لِعِلْمِهِ أَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَغْلِبُ حَتَّى تَهْلِكَ أَكْثَرُ الْأُخْرَى فَيَهْلِكَ الْمُسْلِمُونَ، فَسَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ عَلَى شُرُوطٍ شَرَطَهَا عَلَيْهِ، مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لَهُ مِنْ بَعْدِ مُعَاوِيَةَ، فَالْتَزَمَ كُلَّ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ فصدق قول عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ) وَلَا أَسْوَدَ مِمَّنْ سَوَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ. قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى "وَسَيِّداً" قَالَ: فِي الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ. ابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: فِي الْعِلْمِ وَالْتُّقَى. مُجَاهِدٌ: السَّيِّدُ الْكَرِيمُ. ابْنُ زَيْدٍ: الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السَّيِّدُ الَّذِي يفوق أقرانه في كل شي مِنَ الْخَيْرِ. وَهَذَا جَامِعٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّيِّدُ مِنَ الْمَعِزِ الْمُسِنُّ. وَفِي الْحَدِيثِ (ثَنِيٌّ مِنَ الضَّأْنِ خَيْرٌ مِنَ السَّيِّدِ الْمَعِزِ). قَالَ:
سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَتْ لَهُ ... لِيَذْبَحَهَا لِلضَّيْفِ أَمْ شَاةُ سَيِّدِ
(وَحَصُوراً) أَصْلُهُ مِنَ الْحَصْرِ وَهُوَ الْحَبْسُ. حَصَرَنِي الشَّيْءُ وَأَحْصَرَنِي إِذَا حَبَسَنِي. قَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ:
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ
وناقة حصور: ضيقة الإحليل. وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ كَأَنَّهُ مُحْجِمٌ عَنْهُنَّ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ حَصُورٌ وَحَصِيرٌ إِذَا حَبَسَ رِفْدَهُ وَلَمْ يُخْرِجْ مَا يُخْرِجُهُ النَّدَامَى. يُقَالُ: شَرِبَ الْقَوْمُ فَحَصِرَ عَلَيْهِمْ فُلَانٌ، أَيْ بَخِلَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو. قَالَ الْأَخْطَلُ: وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي ... لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ [[سوار: معربد وثاب. وقد روى "سآر" بوزن سعار، أي أنه لا يسير في الإناء سورا بل يشتفه كله.]]
وَفِي التَّنْزِيلِ ﴿وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً﴾ [الاسراء: ٨] [[راجع ج ١٠ ص ٢٢٤.]] أَيْ مَحْبِسًا. وَالْحَصِيرُ الْمَلِكُ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ. وَقَالَ لَبِيدٌ:
وَقُمَاقِمٍ [[القماقم من الرجال: السيد الكثير الخير الواسع الفضل. والقماقم العدد الكثير.]] غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامٌ
فَيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَصُورٌ، فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، كَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِمَّا يَكُونُ فِي الرِّجَالِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ. وَفَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ، مِنْ ذَلِكَ حَلُوبٌ بِمَعْنَى مَحْلُوبَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فِيهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً ... سُودًا كَخَافِيَةِ الْغُرَابِ الْأَسْحَمِ [[البيت لعنترة العبسي في معلقته. والخوافي: أواخر ريش الجناح مما يلي الظهر.]]
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ والحسن والسدي وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الَّذِي يَكُفُّ عَنِ النِّسَاءِ وَلَا يَقْرَبُهُنَّ مَعَ الْقُدْرَةِ. وَهَذَا أَصَحُّ [الْأَقْوَالِ لو] [[كذا في د. قلت: هذا هو اللائق بالعصمة النبوية.]] جهين: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِ، وَالثَّنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنِ الْفِعْلِ الْمُكْتَسَبِ دُونَ الْجِبِلَّةِ فِي الْغَالِبِ. الثَّانِي أَنَّ فَعُولًا فِي اللُّغَةِ مِنْ صِيَغِ الْفَاعِلِينَ، كَمَا قَالَ [[البيت لابي طالب بن عبد المطلب. مدح رجلا بالكرم فيقول: يضرب بسيفه سوق السمان من الإبل للأضياف إذا عدموا الزاد ولم يظفروا بجواد لشدة الزمان وكلبه، وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت ثم تحروها.
(عن شرح الشواهد).]]:
ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا ... إِذَا عَدِمُوا زَادًا فَإِنَّكَ عَاقِرُ
فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ شَرْعَهُ، فَأَمَّا شَرْعُنَا فَالنِّكَاحُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: الْحَصُورُ الْعِنِّينُ الَّذِي لَا ذَكَرَ لَهُ يَتَأَتَّى لَهُ بِهِ النِّكَاحُ وَلَا يُنْزِلُ، عن ابن عباس أيضا وسعيد ابن الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكِ. وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَلْقَى اللَّهَ بِذَنْبٍ قَدْ أَذْنَبَهُ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ إِنْ شاء أو يرحمه إلا يحيى ابن زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ كَانَ سَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (- ثُمَّ أَهْوَى النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ إِلَى قَذَاةٍ [[القذاة: ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.]] مِنَ الْأَرْضِ فَأَخَذَهَا وَقَالَ:) كَانَ ذَكَرُهُ [هَكَذَا] [[من د.]] مِثْلَ هَذِهِ الْقَذَاةِ (. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْحَابِسُ نَفْسَهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ عز وجل. "وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ" قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّالِحُ الَّذِي يُؤَدِّي لِلَّهِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَإِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ.
{"ayah":"فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَهُوَ قَاۤىِٕمࣱ یُصَلِّی فِی ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحۡیَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَیِّدࣰا وَحَصُورࣰا وَنَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق