الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ﴾ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِنَ "الَّذِينَ" فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ "لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا" أَوْ نَعْتٌ "لِلْعَبِيدِ" أَوْ خَبَرُ ابتداء، أي هم الذين قالوا. وقال الكلب وَغَيْرُهُ. نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَوَهْبِ بْنِ يَهُوذَا، وَفِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ وَجَمَاعَةٍ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالُوا لَهُ: أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابًا عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِ أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فإن جئتنا بِهِ صَدَّقْنَاكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَقِيلَ: كَانَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ كَانَ تَمَامُ الْكَلَامِ: حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَسِيحُ وَمُحَمَّدٌ فَإِذَا أَتَيَاكُمْ فآمنوا بهما من غير قربان. وَقِيلَ: كَانَ أَمْرُ الْقَرَابِينِ ثَابِتًا إِلَى أَنْ نسخت على لسان عيسى بن مَرْيَمَ. وَكَانَ النَّبِيُّ مِنْهُمْ يَذْبَحُ وَيَدْعُو فَتَنْزِلُ نَارٌ بَيْضَاءُ لَهَا دَوِيٌّ وَحَفِيفٌ لَا دُخَانَ لَهَا، فَتَأْكُلُ الْقُرْبَانَ. فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ دَعْوَى مِنَ الْيَهُودِ، إِذْ كَانَ ثَمَّ اسْتِثْنَاءٌ فَأَخْفَوْهُ، أَوْ نُسِخَ، فَكَانُوا فِي تَمَسُّكِهِمْ بِذَلِكَ مُتَعَنِّتِينَ، وَمُعْجِزَاتُ النَّبِيِّ ﷺ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فِي إِبْطَالِ دَعْوَاهُمْ، وَكَذَلِكَ مُعْجِزَاتُ عِيسَى، وَمَنْ وَجَبَ صِدْقُهُ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ (قَدْ جاءَكُمْ) يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) مِنَ الْقُرْبَانِ (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يَعْنِي زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَشَعْيَا، وَسَائِرَ مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِمْ. أَرَادَ بِذَلِكَ أَسْلَافَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي تَلَاهَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاحْتَجَّ بِهَا عَلَى الَّذِي حَسَّنَ قَتْلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْيَهُودَ قَتَلَةً لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ أَسْلَافِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ. وَالْقُرْبَانُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نُسُكٍ [[في هـ وط: نسيكة.]] وَصَدَقَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ فَعْلَانُ مِنَ الْقُرْبَةِ. وَيَكُونُ اسْمًا وَمَصْدَرًا، فَمِثَالُ الِاسْمِ السُّلْطَانُ وَالْبُرْهَانُ. وَالْمَصْدَرُ الْعُدْوَانُ والخسران. وكان عيسى ابن عُمَرَ يَقْرَأُ "بِقُرْبانٍ" بِضَمِ الرَّاءِ إِتْبَاعًا لِضَمَّةِ الْقَافِ، كَمَا قِيلَ فِي جَمْعِ ظُلْمَةٍ: ظُلُمَاتٌ، وَفِي حُجْرَةٍ حُجُرَاتٌ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَزِّيًا لِنَبِيِّهِ وَمُؤْنِسًا لَهُ. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أَيْ بِالدِّلَالَاتِ. (وَالزُّبُرِ) أَيِ الْكُتُبِ الْمَزْبُورَةِ، يَعْنِي الْمَكْتُوبَةَ. وَالزُّبُرُ جَمْعُ زَبُورٍ وَهُوَ الْكِتَابُ. وَأَصْلُهُ مِنْ زَبَرْتُ أَيْ كَتَبْتُ. وَكُلُّ زَبُورٍ فَهُوَ كِتَابٌ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجَانِي كَخَطِّ زَبُورٍ فِي عَسِيبِ [[العسيب: سعف النخل الذي جرد عنه خوصة، وهى الجريدة.]] يَمَانِي وَأَنَا أَعْرِفُ تَزْبِرَتِي أَيْ كِتَابَتِي. وَقِيلَ: الزَّبُورُ مِنَ الزَّبْرِ بِمَعْنَى الزَّجْرِ. وَزَبَرْتُ الرَّجُلَ انْتَهَرْتُهُ. وَزَبَرْتُ الْبِئْرَ: طَوَيْتُهَا بِالْحِجَارَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "بِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ" بِزِيَادَةِ بَاءٍ فِي الْكَلِمَتَيْنِ [[في ط وب: في الحرفين.]]. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفَ أَهْلِ الشَّامِ. (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الواضح المضي، مِنْ قَوْلِكَ: أَنَرْتُ الشَّيْءَ أُنِيرُهُ، أَيْ أَوْضَحْتُهُ: يُقَالُ: نَارَ الشَّيْءَ وَأَنَارَهُ وَنَوَّرَهُ وَاسْتَنَارَهُ بِمَعْنًى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ. وَجَمَعَ بَيْنَ الزُّبُرِ وَالْكِتَابِ- وَهُمَا بِمَعْنًى- لِاخْتِلَافِ لَفْظِهِمَا، وَأَصْلُهَا كما ذكرنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب