الباحث القرآني
فيه ثمان مسائل: الْأُولَى- لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا جَرَى يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا يُمَيِّزُ الْمُنَافِقَ مِنَ الصَّادِقِ، بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ فَقُتِلَ لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْحَيَاةُ عِنْدَهُ. وَالْآيَةُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكَلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ (- قَالَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً ... ) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَرَوَى بَقِيُّ [[حافظ الأندلس ابن يزيد القرطبي.]] بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: (يَا جَابِرُ مالي أَرَاكَ مُنَكِّسًا مُهْتَمًّا)؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ: (أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أَبَاكَ)؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا [[كفاحا (بكسر الكاف) أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول.]] وَمَا كُلِّمَ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدِي تَمَنَّ أُعْطِكَ قَالَ يَا رَبُّ فَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ [إِلَيْهَا] [[زيادة عن سنن الترمذي وابن ماجة.]] لَا يُرْجَعُونَ قَالَ يَا رَبُّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ"
قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطْلَّبِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَأَوْا مَا رُزِقُوا مِنَ الْخَيْرِ قَالُوا: لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا أَصَابَنَا مِنَ الْخَيْرِ كَيْ يَزْدَادُوا فِي الْجِهَادِ رَغْبَةً، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً- إِلَى قَوْلِهِ: لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ". وَقَالَ أَبُو الضُّحَى: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ أُحُدٍ خَاصَّةً. وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي [[كذا في أوح. وفى د: يقتضى هذا القول، وفى ب وج وهـ: يقضى بصحة إلخ.]] صِحَّةَ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَسِتَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ [[راجع سيرة ابن هشام ص ٦٤ طبع أوربا.]] وَغَيْرُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ الشُّهَدَاءِ كَانُوا إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ وَسُرُورٌ تَحَسَّرُوا وَقَالُوا: نَحْنُ فِي النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ، وَآبَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا فِي الْقُبُورِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ تَنْفِيسًا عَنْهُمْ وَإِخْبَارًا عَنْ حَالِ قَتْلَاهُمْ. قُلْتُ: وَبِالْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ بِسَبَبِ الْمَجْمُوعِ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا عَنِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ يُرْزَقُونَ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مَاتُوا وَأَنَّ أَجْسَادَهُمْ فِي التُّرَابِ، وَأَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ كَأَرْوَاحِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفُضِّلُوا بِالرِّزْقِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَتْلِ حَتَّى كَأَنَّ حَيَاةَ الدُّنْيَا دَائِمَةٌ لَهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى. فَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُعْظَمُ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ حَيَاةَ الشُّهَدَاءِ مُحَقَّقَةٌ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُرَدُّ إِلَيْهِمُ الْأَرْوَاحُ فِي قُبُورِهِمْ فَيُنَعَّمُونَ، كَمَا يَحْيَا الْكُفَّارُ فِي قُبُورِهِمْ فَيُعَذَّبُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَيْ يَجِدُونَ رِيحَهَا وَلَيْسُوا فِيهَا. وَصَارَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ اللَّهِ مُسْتَحِقُّونَ لِلتَّنَعُّمِ فِي الْجَنَّةِ. وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: مَا مَاتَ فُلَانٌ، أَيْ ذِكْرُهُ حَيٌّ، كَمَا قِيلَ:
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لَا فَنَاءَ لَهَا ... قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ
فالمعنى أنهم يرزقون الشاء الْجَمِيلَ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ مَا صَحَّ بِهِ النَّقْلُ فَهُوَ الْوَاقِعُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَصٌّ يَرْفَعُ الْخِلَافَ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي كِتَابِ "التَّذْكِرَةِ بِأَحْوَالِ الْمَوْتَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ". وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ كم الشُّهَدَاءَ، وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُو الْحَالِ. وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَ فِي الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ فَبَعِيدٌ يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "بَلْ أَحْياءٌ" دَلِيلٌ عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ وَلَا يُرْزَقُ إِلَّا حَيٌّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَوَابُ غَزْوَةٍ، وَيُشْرَكُونَ فِي ثَوَابِ كُلِّ جِهَادٍ كَانَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهُمْ سَنُّوا أَمْرَ الْجِهَادِ. نَظِيرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً﴾ [المائدة: ٣٢] [[راجع ج ٦ ص ١٤٥.]]. عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَأَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَاتُوا عَلَى وُضُوءٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهِيدَ لَا يَبْلَى فِي الْقَبْرِ وَلَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي "التَّذْكِرَةِ" وَأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَالشُّهَدَاءَ وَالْعُلَمَاءَ وَالْمُؤَذِّنِينَ الْمُحْتَسِبِينَ وَحَمَلَةَ الْقُرْآنِ. الثَّانِيَةُ- إِذَا كَانَ الشَّهِيدُ حَيًّا حُكْمًا فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَالْحَيِّ حِسًّا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غُسْلِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى غُسْلِ جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا قَتِيلَ الْمُعْتَرَكِ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ خَاصَّةً، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ) يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا؟ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ. وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْأَوْزَاعِيُّ ودَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَابْنُ عُلَيَّةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ: يُغَسَّلُونَ. قَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لِكَثْرَتِهِمْ وَالشُّغْلِ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بن الحسن العنبري، وليس مَا ذَكَرُوا مِنَ الشُّغْلِ عَنْ غُسْلِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ عِلَّةً، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ لَهُ وَلِيٌّ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَقُومُ بِأَمْرِهِ. وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي دِمَائِهِمْ (أَنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَرِيحِ الْمِسْكِ) فَبَانَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتِ الشُّغْلَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَدْخَلٌ فِي الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَسْأَلَةُ اتِّبَاعٍ لِلْأَثَرِ الَّذِي نَقَلَهُ الْكَافَّةُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلُوا. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْحَسَنِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ.
(أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَشْرَكهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا يُشْبِهُ الشُّذُوذَ، وَالْقَوْلُ بِتَرْكِ غُسْلِهِمْ أَوْلَى، لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَتْلَى أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ. قَالَ: وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. الثانية- وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: (أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ)؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: (أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ. وَرَوَوْا آثَارًا كَبِيرَةً أَكْثَرُهَا مَرَاسِيلُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ وَعَلَى سَائِرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ. والرابعة- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ إِذَا حُمِلَ حَيًّا وَلَمْ يَمُتْ فِي الْمُعْتَرَكِ وَعَاشَ وَأَكَلَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا قَدْ صُنِعَ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا كَقَتِيلِ الْخَوَارِجِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: كُلُّ مَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَكِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ شَهِيدٍ، وَهُوَ قَوْلٌ سَائِرٌ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَرَوَوْا من طرق كثير صِحَاحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ، وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا وَلَا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا. وَثَبَتَ [[كذا في د وج وهـ وب. وفى أوح: روى.]] عَنْ عَمَّارِ بْنِ ياسر أنه قال مثل قول زيد ابن صُوحَانَ. وَقُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ وَلَمْ يُغَسِّلْهُ عَلِيٌّ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- يُغَسَّلُ كَجَمِيعِ الْمَوْتَى إِلَّا مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يُغَسَّلُ مَنْ قتله الكفار ومات في المعترك. وكان مَقْتُولٍ غَيْرِ قَتِيلِ الْمُعْتَرَكِ- قَتِيلِ الْكُفَّارِ- فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ- لَا يُغَسَّلُ قَتِيلُ الْبُغَاةِ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَصَحُّ، فَإِنَّ غُسْلَ الْمَوْتَى قَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَنَقْلِ الْكَافَّةِ. فَوَاجِبٌ غُسْلُ كُلِّ مَيِّتٍ إِلَّا مَنْ أَخْرَجَهُ إِجْمَاعٌ أَوْ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْخَامِسَةُ- الْعَدُوُّ إِذَا صَبَّحَ قَوْمًا فِي مَنْزِلِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ فَهَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ قَتِيلِ الْمُعْتَرَكِ، أَوْ حُكْمَ سَائِرِ الْمَوْتَى، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَزَلَتْ عِنْدَنَا بِقُرْطُبَةَ أَعَادَهَا الله: أغار العدوقصمه اللَّهُ- صَبِيحَةَ الثَّالِثِ مِنْ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةِ وَالنَّاسُ فِي أَجْرَانِهِمْ عَلَى غَفْلَةٍ، فَقَتَلَ وَأَسَرَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ، فَسَأَلْتُ شَيْخَنَا الْمُقْرِئَ الْأُسْتَاذَ أَبَا جَعْفَرٍ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفَ بِأَبِي [[في ج: "بابن حجة".]] حِجَّةَ فقال، غسله وصلي عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَبَاكَ لَمْ يُقْتَلْ فِي الْمُعْتَرَكِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. ثُمَّ سَأَلْتُ شَيْخَنَا رَبِيعَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَبِيعِ بْنِ أُبَيٍّ فَقَالَ: إِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْقَتْلَى فِي الْمُعْتَرَكِ. ثُمَّ سَأَلْتُ قَاضِيَ الْجَمَاعَةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ قَطْرَالٍ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ، فَفَعَلْتُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَفْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي "التَّبْصِرَةِ" لِأَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ وَغَيْرِهَا. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا غَسَّلْتُهُ، وَكُنْتُ دَفَنْتُهُ بِدَمِهِ فِي ثِيَابِهِ. السَّادِسَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ ثَوَابِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالشَّهَادَةِ فِيهِ حَتَّى إِنَّهُ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ، كَمَا قَالَ ﷺ: (الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ الله يكفر كل شي إِلَّا الدَّيْنَ كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفًا). قَالَ عُلَمَاؤُنَا ذِكْرُ الدَّيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَمِ، كَالْغَصْبِ وَأَخْذِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ وَجِرَاحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّبِعَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ هَذَا أَوْلَى أَلَّا يُغْفَرَ بِالْجِهَادِ مِنَ الدَّيْنِ فإنه أشد، والقصاص في هذا كُلِّهِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ حَسْبَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ- أَوْ قَالَ النَّاسَ، شَكَّ هَمَّامٌ [[هو همام بن يحيى، أحد رجال سند هذا الحديث.]]، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّامِ- عُرَاةً غُرْلًا [[الغرل (بضم فسكون): جمع الأغرل، وهو الأقلف.]] بُهْمًا. قُلْنَا: مَا بُهْمٌ؟ [[في ط وهـ وب: ما بهما؟.]] قَالَ: لَيْسَ معهم شي فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلِمَةٍ حَتَّى اللَّطْمَةِ. قَالَ قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا؟. قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ (. أَخْرَجَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ [[في ج: أمامة. والصحيح ما أثبت كما في التمهيد.]]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:) أَتَدْرُونَ مَنَ الْمُفْلِسُ (؟. قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. فَقَالَ:) إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خطاياه فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ (. وَقَالَ ﷺ:) وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ (. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:) نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ (. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ: سُئِلَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ صَحِيحٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الشُّهَدَاءِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ حِينِ الْقَتْلِ، وَلَا تكون أرواحهم في جوف طير كما ذكرتكم، وَلَا يَكُونُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَأَيْنَ يَكُونُونَ؟ قُلْنَا: قَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ بَارِقٌ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فَلَعَلَّهُمْ هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَهَؤُلَاءِ طَبَقَاتٌ وَأَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجْمَعُهَا أَنَّهُمْ "يُرْزَقُونَ". وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ فِي سُنَنِهِ عن سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (شَهِيدُ الْبَحْرِ مِثْلُ شَهِيدَيِ [[قال في شرح الجامع: بلفظ التثنية.]] الْبَرِّ وَالْمَائِدُ [[المائد: الذي تدور رأسه من ريح البحر، واضطراب السفينة بالأمواج.]] فِي الْبَحْرِ كَالْمُتَشَحِّطِ [[تشحط المقتول في دمه تخبط في واضطراب وتمرغ.]] فِي دَمِهِ فِي الْبَرِّ وَمَا بَيْنَ الْمَوْجَتَيْنِ كَقَاطِعِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ مَلَكَ الْمَوْتِ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ إِلَّا شُهَدَاءَ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ أَرْوَاحِهِمْ وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَرِّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الدَّيْنَ وَيَغْفِرُ لِشَهِيدِ الْبَحْرِ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَالدَّيْنَ (. السَّابِعَةُ- الدَّيْنُ الَّذِي يُحْبَسُ بِهِ صَاحِبُهُ عَنِ الْجَنَّةِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هُوَ الَّذِي قَدْ تَرَكَ لَهُ وَفَاءً وَلَمْ يُوصِ بِهِ. أَوْ قَدَرَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَمْ يُؤَدِّهِ، أَوِ ادَّانَهُ فِي سَرَفٍ أَوْ فِي سَفَهٍ وَمَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِ. وَأَمَّا مَنِ ادَّانَ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ لِفَاقَةٍ وَعُسْرٍ وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحْبِسُهُ عَنِ الْجَنَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَانِ فَرْضًا أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ دَيْنَهُ، إِمَّا مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَقَاتِ، أَوْ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، أَوْ مِنَ الْفَيْءِ الرَّاجِعِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ﷺ: (مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا [[الضياع: (بفتح أوله): العيال.]] فَعَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ). وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْبَابَ بَيَانًا فِي كتاب (التذكرة) والحمد لله. الثانية- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ كَرَامَةِ رَبِّهِمْ. وَ "عِنْدَ" هُنَا تَقْتَضِي غَايَةَ الْقُرْبِ، فَهِيَ كَ (- لَدَى) وَلِذَلِكَ لَمْ تُصَغَّرْ فَيُقَالُ! عُنَيدَ، قَالَ سِيبَوَيْهِ. فَهَذِهِ عِنْدِيَّةُ الْكَرَامَةِ لَا عِنْدِيَّةُ الْمَسَافَةِ وَالْقُرْبِ. وَ "يُرْزَقُونَ" هُوَ الرِّزْقُ الْمَعْرُوفُ فِي الْعَادَاتِ. وَمَنْ قَالَ: هِيَ حَيَاةُ الذِّكْرِ قَالَ: يُرْزَقُونَ الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ. وَالْأَوَّلُ الْحَقِيقَةُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَرْوَاحَ تُدْرِكُ فِي تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي يَسْرَحُونَ فيها من روائح الجنة وطيبها ونعبمها وَسُرُورِهَا مَا يَلِيقُ بِالْأَرْوَاحِ، مِمَّا تُرْتَزَقُ وَتَنْتَعِشُ بِهِ. وَأَمَّا اللَّذَّاتُ الْجُسْمَانِيَّةُ فَإِذَا أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا اسْتَوْفَتْ مِنَ النَّعِيمِ جَمِيعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهَا. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْمَجَازِ، فَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا اخْتَرْنَاهُ. وَالْمُوَفِّقُ الْإِلَهُ. وَ (فَرِحِينَ) نصب في موضع الحال مِنَ الْمُضْمَرِ فِي "يُرْزَقُونَ". وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ "فَرِحُونَ" عَلَى النَّعْتِ لِأَحْيَاءٍ. وَهُوَ مِنَ الْفَرَحِ بِمَعْنَى السُّرُورِ. وَالْفَضْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ النَّعِيمُ الْمَذْكُورُ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْقَعِ "فَارِحِينَ" بِالْأَلِفِ وَهُمَا لُغَتَانِ، كَالْفَرِهِ وَالْفَارِهِ، وَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ، وَالطَّمِعِ وَالطَّامِعِ، وَالْبَخِلِ وَالْبَاخِلِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ رَفْعُهُ، يَكُونُ نَعْتًا لِأَحْيَاءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الْمَعْنَى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ فِي الْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَضْلٌ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَشَرَةِ [[كذا في ب وز وهـ وج. وفى ط: البشارة.]]، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَرِحَ ظَهَرَ أَثَرُ السُّرُورِ فِي وَجْهِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ.: يُؤْتَى الشَّهِيدُ بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْرُ مَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانِهِ، فَيَسْتَبْشِرُ كَمَا يَسْتَبْشِرُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِقُدُومِهِ فِي الدنيا. وقال قتادة وابن جريح وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ: اسْتِبْشَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِخْوَانُنَا الَّذِينَ تَرَكْنَا خَلْفَنَا فِي الدُّنْيَا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ نَبِيِّهِمْ، فَيُسْتَشْهَدُونَ فَيَنَالُونَ مِنَ الْكَرَامَةِ مِثْلَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيُسَرُّونَ وَيَفْرَحُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْإِشَارَةَ بِالِاسْتِبْشَارِ لِلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يُقْتَلُوا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا ثَوَابَ اللَّهِ وَقَعَ الْيَقِينُ بِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهُمْ فَرِحُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، مُسْتَبْشِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. ذَهَبَ إلى هذا المعنى الزجاج وابن فورك.
{"ayahs_start":169,"ayahs":["وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ","فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَیَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِینَ لَمۡ یَلۡحَقُوا۟ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ"],"ayah":"وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق