الباحث القرآني

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أُحُدٍ وَقَدْ أُصِيبُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَسَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ بَعْدَهُ عَلَى اللواء، وكان الظَّفَرُ ابْتِدَاءً لِلْمُسْلِمِينَ غَيْرَ أَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِالْغَنِيمَةِ، وَتَرَكَ بَعْضُ الرُّمَاةِ أَيْضًا مَرْكَزَهُمْ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَلَقِينَا الْمُشْرِكِينَ أَجْلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُنَاسًا مِنَ الرُّمَاةِ وَأَمَّرَ عليهم عبد الله ابن جُبَيْرٍ وَقَالَ لَهُمْ: (لَا تَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِكُمْ [إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا] [[زيادة عن صحيح البخاري. والذي فيه: "لا تبرحوا إن رأيتمونا".]] وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعِينُونَا عَلَيْهِمْ) قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَى الْقَوْمُ وَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى نَظَرْنَا إِلَى النِّسَاءِ يَشْتَدِدْنَ [[أي يسرعن المشي.]] فِي الْجَبَلِ، وَقَدْ رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ. فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ: أَمْهِلُوا! أَمَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَلَّا تَبْرَحُوا، فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صَرَفَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ رَجُلًا. ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَشْرَفَ عَلَيْنَا وَهُوَ فِي نَشَزٍ فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَا تُجِيبُوهُ) حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيِّ ﷺ: ثُمَّ قَالَ: (لَا تُجِيبُوهُ) ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ عُمَرُ [بْنُ الْخَطَّابِ] [[في ج وهـ ود.]]؟ ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (لَا تُجِيبُوهُ) ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا. فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفْسَهُ دُونَ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ! قَدْ أَبْقَى اللَّهُ لَكَ مَنْ يُخْزِيكَ بِهِ. فَقَالَ: اعْلُ هُبَلُ [[أي أظهر دينك، أو رد علوا، أو ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت.]]، مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أَجِيبُوهُ) فَقَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ). قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى [[العزى: اسم صنم لقريش.]] وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، (أَجِيبُوهُ). قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولُوا (اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ). قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَشَدَّ الْقِتَالِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَعْدٍ: عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ أَشَدَّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا بَعْدَهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ مُجَاهِدٌ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ عَنِ الْقَوْمِ حِينَ عَصَوُا الرَّسُولَ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ. وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى أَنْ يُمِدَّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ: وَكَانَ قَدْ فَعَلَ، فَلَمَّا عَصَوْا أَمْرَ الرَّسُولِ وَتَرَكُوا مَصَافَّهُمْ وَتَرَكُوا الرُّمَاةَ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ أَلَّا يَبْرَحُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَأَرَادُوا الدُّنْيَا، رُفِعَ عَنْهُمْ مَدَدُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران: ١٥٢] فَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَأَرَاهُمُ الْفَتْحَ، فَلَمَّا عَصَوْا أَعْقَبَهُمُ الْبَلَاءَ. وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَسَعْدٌ يَرْمِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفَتًى يُنَبِّلُ لَهُ، كُلَّمَا ذَهَبَتْ نَبْلَةٌ أَتَاهُ بِهَا. قَالَ ارْمِ أَبَا إِسْحَاقَ. فَلَمَّا فَرَغُوا نَظَرُوا مَنِ الشَّابُّ؟ فَلَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ [[في د: نقله محمد بن كعب.]]. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: وَلَمَّا قُتِلَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَسَقَطَ لِوَاؤُهُمْ، رَفَعَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ حَسَّانٌ: فَلَوْلَا لِوَاءُ الْحَارِثِيَّةِ أَصْبَحُوا ... يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ الْجَلَائِبِ وَ (تَحُسُّونَهُمْ) مَعْنَاهُ تَقْتُلُونَهُمْ وَتَسْتَأْصِلُونَهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا وَقَالَ جَرِيرٌ: تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الْأَجَمِ الْحَصِيدِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْحَسُّ الِاسْتِئْصَالُ بِالْقَتْلِ، يُقَالُ: جَرَادٌ مَحْسُوسٌ إِذَا قَتَلَهُ الْبَرْدُ. وَالْبَرْدُ مُحَسَّةٌ لِلنَّبْتِ أَيْ مَحْرَقَةٌ لَهُ ذَاهِبَةٌ بِهِ. وسنة حسوس أي جديه تأكل كل شي، قَالَ رُؤْبَةُ: إِذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا ... تَأْكُلُ بعد الأخضر [[في اللسان: الخضرة.]] اليبيسا" أصله مِنَ الْحِسِّ الَّذِي هُوَ الْإِدْرَاكُ بِالْحَاسَّةِ. فَمَعْنَى حَسَّهُ أَذْهَبَ حِسَّهُ بِالْقَتْلِ. (بِإِذْنِهِ) بِعِلْمِهِ، أَوْ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ. (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أَيْ جَبُنْتُمْ وضعفتم. يقال: فشل يفشل فهو فَشِلٌ وَفَشْلٌ. وَجَوَابُ "حَتَّى" مَحْذُوفٌ، أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمُ امْتُحِنْتُمْ. وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَقَوْلِهِ: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ﴾ [الانعام: ٣٥] [[راجع ج ٦ ص ٤١٧.]] فَافْعَلْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَوَابُ "حَتَّى"، "وَتَنازَعْتُمْ" وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ ﴿فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ﴾ [الصافات: ١٠٤ - ١٠٣] [[راجع ج ١٥ ص ٩٩.]] أَيْ نَادَيْنَاهُ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى أَيِ انْتَحَى. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ إِقْحَامُ الْوَاوِ مِنْ "وَعَصَيْتُمْ" أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ عَصَيْتُمْ. وَعَلَى هَذَا فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ وفشلتم. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ "صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ"، "ثُمَّ" زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ في زيادتها قوله الشاعر: أراني إذا ما بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إِذَا أَصْبَحْتُ أَصْبَحْتُ عَادِيًا وَجَوَّزَ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١١٨] [[راجع ج ٨ ص ٢٨١.]]. وَقِيلَ: "حَتَّى" بِمَعْنَى "إِلَى" وَحِينَئِذٍ لَا جَوَابَ لَهُ، أَيْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِلَى أَنْ فَشِلْتُمْ، أَيْ كَانَ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِشَرْطِ الثَّبَاتِ. ومعنى (تَنازَعْتُمْ) اخْتَلَفْتُمْ، يَعْنِي الرُّمَاةَ حِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَلْحَقُ الْغَنَائِمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَثْبُتُ فِي مَكَانِنَا الَّذِي أَمَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ بِالثُّبُوتِ فِيهِ. (وَعَصَيْتُمْ) أَيْ خَالَفْتُمْ أَمْرَ الرَّسُولِ فِي الثُّبُوتِ. (مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ) يَعْنِي مِنَ الْغَلَبَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَوَّلَ أَمْرِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ صُرِعَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا صُرِعَ انْتَشَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ وَصَارُوا كَتَائِبَ مُتَفَرِّقَةً فَحَاسُوا [[الحووس: شدة الاختلاط ومداركة الضرب. أي بالغوا النكاية فيهم، في هـ ود: جاسوا.]] الْعَدُوَّ ضَرْبًا حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ [[أي نحوهم عنها وأزالوهم.]] عَنْ أَثْقَالِهِمْ. وَحَمَلَتْ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ تُنْضَحُ بِالنَّبْلِ فَتَرْجِعُ مَغْلُوبَةً [[في د: مفلولة.]]، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ فَنَهَكُوهُمْ قَتْلًا. فَلَمَّا أَبْصَرَ الرُّمَاةُ الْخَمْسُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَتَحَ لِإِخْوَانِهِمْ قالوا: والله ما نجلس هاهنا لِشَيْءٍ، قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ الْعَدُوَّ وَإِخْوَانُنَا فِي عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ: عَلَامَ نَقِفُ وَقَدْ هَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ؟ فَتَرَكُوا مَنَازِلَهُمُ الَّتِي عَهِدَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلِّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَتْرُكُوهَا، وَتَنَازَعُوا وَفَشِلُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ فَأَوْجَفَتِ [[الإيجاف: سرعة السير.]] الْخَيْلُ فِيهِمْ قَتْلًا. وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ تَقْتَضِي التَّوْبِيخَ لَهُمْ، وَوَجْهُ التَّوْبِيخِ لَهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا مَبَادِئَ النَّصْرِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ تَمَامَ النَّصْرِ فِي الثَّبَاتِ لَا فِي الِانْهِزَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ التَّنَازُعِ فَقَالَ: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا). يَعْنِي الْغَنِيمَةَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا شَعَرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا حَتَّى كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وَهُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِي مَرْكَزِهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفُوا أَمْرَ نَبِيِّهِمْ ﷺ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَحَمَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ عَلَيْهِ، وَكَانَا يَوْمَئِذٍ كَافِرَيْنِ فَقَتَلُوهُ مَعَ مَنْ بَقِيَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَالْعِتَابُ مَعَ مَنِ انْهَزَمَ لَا مَعَ مَنْ ثَبَتَ، فَإِنَّ مَنْ ثَبَتَ فَازَ بِالثَّوَابِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِقَوْمٍ عُقُوبَةٌ عَامَّةٌ فَأَهْلُ الصَّلَاحِ وَالصِّبْيَانِ يَهْلِكُونَ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ مَا حَلَّ بِهِمْ عُقُوبَةً، بَلْ هُوَ سَبَبُ الْمَثُوبَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ أَيْ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَيْهِمْ رَدَّكُمْ عَنْهُمْ بِالِانْهِزَامِ. وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْمَعْنَى ثُمَّ انْصَرَفْتُمْ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ الرُّعْبَ مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ابْتِلَاءٌ لَهُمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَهَذَا لَا يُغْنِيهِمْ، لِأَنَّ إِخْرَاجَ الرُّعْبِ مِنْ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ حَتَّى يَسْتَخِفُّوا بِالْمُسْلِمِينَ قَبِيحٌ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ، أَنْ يَقَعَ مِنَ اللَّهِ قَبِيحٌ، فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: "ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ" مَعْنَى. وَقِيلَ: مَعْنَى "صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ" أَيْ لَمْ يُكَلِّفْكُمْ طَلَبَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَيْ لَمْ يَسْتَأْصِلْكُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ. وَالْخِطَابُ قِيلَ هُوَ لِلْجَمِيعِ. وَقِيلَ: هُوَ لِلرُّمَاةِ الَّذِينَ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قوله: ﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ﴾ [البقرة: ٥٢] [[راجع ج ١ ص ٣٩٧.]]. (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نُصِرَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْطِنٍ كَمَا نُصِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: وَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ- يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْحَسُّ الْقَتْلُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الرُّمَاةَ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ قَالَ: (احْمُوا ظُهُورَنَا فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا). فَلَمَّا غَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبَاحُوا عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ انْكَفَأَتِ الرُّمَاةُ جَمِيعًا فَدَخَلُوا فِي الْعَسْكَرِ يَنْتَهِبُونَ، وَقَدِ الْتَقَتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَهُمْ هَكَذَا- وَشَبَّكَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ- وَالْتَبَسُوا. فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخَلَّةِ [[أخل بالمكان ويمركزه: غاب عنه وتركه. والخلة: الطريق.]] الَّتِي كَانُوا فِيهَا دَخَلَتِ الْخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالْتَبَسُوا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ أَوَّلَ النَّهَارِ حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ، وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ الْجَبَلِ، وَلَمْ يَبْلُغُوا حَيْثُ يَقُولُ النَّاسُ: الْغَارَ [[كذا في الأصول. والذي في الدر المنثور، والمستدرك للحاكم: "... الغاب" بالباء بدل الراء.]]، إِنَّمَا كَانُوا تَحْتَ الْمِهْرَاسِ [[المهراس: ماء بجبل أحد.]] وَصَاحَ الشَّيْطَانُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ. فَلَمْ يُشَكَّ فِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ، فَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ قُتِلَ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ [[السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.]]، نَعْرِفُهُ بِتَكَفُّئِهِ [[التكفؤ: التمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها.]] إِذَا مَشَى. قَالَ: فَفَرِحْنَا حَتَّى كَأَنَّا لَمْ يُصِبْنَا مَا أَصَابَنَا. قَالَ: فَرَقِيَ نَحْوَنَا وَهُوَ يَقُولُ: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ) [[في د وهـ وج: وجه رسوله.]]. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، عَرَفْتُهُ بِعَيْنَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ تُزْهِرَانِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! أَبْشِرُوا، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ أَقْبَلَ. فَأَشَارَ إلي أن اسكت.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب