الباحث القرآني

فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ كَانَتْ بَدْرٌ يَوْمَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، يَوْمَ جُمُعَةٍ لِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبَدْرٌ مَاءٌ هُنَالِكَ وَبِهِ سُمِّيَ الْمَوْضِعُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ لِرَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ يُسَمَّى بَدْرًا، وَبِهِ سُمِّيَ الْمَوْضِعُ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: بَدْرٌ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ. وَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ بَدْرٍ فِي "الْأَنْفَالِ" [[راجع ج ٧ ص ٣٧٠ فما بعد.]] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَ "أَذِلَّةٌ" مَعْنَاهَا قَلِيلُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ أربعة عشر رجلا. وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الالف. و "أَذِلَّةٌ" جَمْعُ ذَلِيلٍ. وَاسْمُ الذُّلِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُسْتَعَارٌ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَّا أَعِزَّةً، وَلَكِنَّ نِسْبَتَهُمْ إِلَى عَدُوِّهِمْ وَإِلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ تَقْتَضِي عِنْدَ التَّأَمُّلِ ذِلَّتَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ. وَالنَّصْرُ الْعَوْنُ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَتَلَ فِيهِ صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ ابْتُنِيَ [[في ب، ود: انبنى؟؟.]] الْإِسْلَامُ، وَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ قَاتَلَهُ النَّبِيِّ ﷺ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُنَّ. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ إسحاق قال: لقيت زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَقُلْتُ لَهُ: كَمْ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قال تسع عشرة غزوة. فقلت: فكم غزوه أَنْتَ مَعَهُ؟ فَقَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. قَالَ فَقُلْتُ: فَمَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا؟ قَالَ: ذَاتُ الْعَسِيرِ أَوِ الْعَشِيرِ. وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ الطَّبَقَاتِ لَهُ: إِنَّ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ سَبْعَ وَعِشْرُونَ غَزْوَةً، وَسَرَايَاهُ سِتٌّ وَخَمْسُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ، [[الذي في كتاب الطبقات لابن سعد: "وكانت سراياه التي بعث بها سبعا وأربعين سرية".]] وَالَّتِي قَاتَلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْمُرَيْسِيعُ والخندق وخيبر وقريظة والفتح وَالطَّائِفُ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: هَذَا الَّذِي اجْتَمَعَ لَنَا عَلَيْهِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَاتَلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ وَفِي وَادِي الْقُرَى مُنْصَرَفِهِ مِنْ خَيْبَرَ وَفِي الْغَابَةِ [[الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام.]]. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ: زَيْدٌ وَبُرَيْدَةُ إِنَّمَا أَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي عِلْمِهِ أَوْ شَاهَدَهُ. وَقَوْلُ زَيْدٍ: "إِنَّ أَوَّلَ غَزَاةٍ غَزَاهَا ذَاتُ الْعَسِيرَةِ" مُخَالِفٌ أَيْضًا لِمَا قَالَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ قَبْلَ غَزْوَةِ الْعَشِيرَةِ ثَلَاثُ غَزَوَاتٍ، يَعْنِي غَزَاهَا بِنَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ الدُّرَرِ فِي الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ. أَوَّلُ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَزْوَةُ وَدَّانَ [[ودان (بفتح الواو وشد المهملة): قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع. وقيل: واد في الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة. (عن شرح المواهب).]] غَزَاهَا بِنَفْسِهِ فِي صَفَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَبَاقِي الْعَامِ كُلِّهِ. إِلَى صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ من الهجرة: ثم حرج فِي صَفَرٍ الْمَذْكُورِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ حَتَّى بَلَغَ وَدَّانَ فَوَادَعَ [[الموادعة: المصالحة.]] بَنِي ضَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِغَزْوَةِ الْأَبْوَاءِ. ثُمَّ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى [شَهْرِ] رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنَ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ خَرَجَ فِيهَا وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ السَّائِبَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى بَلَغَ بَوَاطَ [[بواط (بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره طاء مهملة): جبل من جبال جهينة بقرب ينبع على أربعة برد من المدينة.]] مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى [[رضوى (بفتح الراء وسكون المعجمة مقصور): جبل بالمدينة، وهو على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة.]]، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى المدينة وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا، ثُمَّ أَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَبَعْضَ جُمَادَى الْأُولَى، ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَأَخَذَ عَلَى طَرِيقِ مِلْكٍ [[ملك (بالكسر ثم السكون والكاف): واد بمكة.]] إِلَى الْعُسَيْرَةِ. قُلْتُ: ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا فَصَالَحَ بِهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ فَوَادَعَهُمْ، فَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ لَكَ أَبَا الْيَقْظَانِ أَنْ تَأْتِيَ هَؤُلَاءِ؟ نَفَرٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ لَهُمْ نَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ. فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ سَاعَةً ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْمُ فَعَمَدْنَا إِلَى صَوْرٍ [[الصور جماعة النخل الصغار، لا واحد له من لفظه. الدقعاء: التراب.]] مِنَ النَّخْلِ فِي دَقْعَاءَ مِنَ الْأَرْضِ فَنِمْنَا فيه، فو الله مَا أَهَبَّنَا إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْنَا وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءِ فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ: (مَا بَالُكَ يَا أَبَا تُرَابٍ)، فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِنَا فَقَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْقَى النَّاسِ رَجُلَيْنِ) قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ- وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ- حَتَّى يَبَلَّ مِنْهَا هَذِهِ) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ. فَقَالَ أَبُو عُمَرَ: فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الْأُولَى وَلَيَالِيَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَوَادَعَ فِيهَا بَنِي مُدْلِجٍ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا. ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ، هَذَا الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ، فَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا عِنْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ: ذَاتٌ الْعُسَيْرِ بِالسِّينِ وَالشِّينِ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا هَاءٌ فَيُقَالُ: الْعُشَيْرَةُ. ثُمَّ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى وَهِيَ أَعْظَمُ الْمَشَاهِدِ فَضْلًا لِمَنْ شَهِدَهَا، وَفِيهَا أَمَدَّ اللَّهُ بِمَلَائِكَتِهِ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ، لَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ جَعَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ" إِلَى قَوْلِهِ: "تَشْكُرُونَ"؟؟ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ. هَذَا قول عامر الشعبي، وخالفه الناس. تظاهرت الرِّوَايَاتُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَضَرَتْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَاتَلَتْ، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهيد بَدْرٍ: لَوْ كُنْتُ مَعَكُمُ الْآنَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ [[الشعب (بالكسر): الطريق في الجبل.]] الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ وَلَا أَمْتَرِي. رَوَاهُ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا يُعْرَفُ لِلزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، وَأَبُو أُسَيْدٍ يُقَالُ إِنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ وَغَيْرِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عمر ابن الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ من الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ) فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: ٩] [[راجع ج ٧ ص ٣٧٠.]] فَأَمَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ. قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ [[أبو زميل (بالتصغير) هو سماك بن الوليد. (تهذيب التهذيب).]]: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ المشركين أمامه إذ يسمع ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، [[حيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة.]] فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ [كَضَرْبَةِ السَّوْطِ] [[زيادة عن صحيح مسلم، واخضر بأسود؟.]] فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ. فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: (صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ) فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي آخِرِ "الْأَنْفَالِ" [[ج ٨ ص ٤٨.]] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَتَظَاهَرَتِ السُّنَّةُ وَالْقُرْآنُ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَعَنْ خَارِجَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِجِبْرِيلَ: (مَنِ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَقْدِمْ حَيْزُومُ)؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: (يَا مُحَمَّدُ مَا كُلُّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ). وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْتَحُ [[متح: جذب الدلو من البئر مستقيما، والماتح: المستقى.]] مِنْ قَلِيبِ بَدْرٍ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، ثُمَّ ذَهَبَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قط إلا التي كانت قَبْلَهَا. قَالَ: وَأَظُنُّهُ ذَكَرَ: ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَكَانَتِ الرِّيحُ الْأُولَى جِبْرِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَتِ الرِّيحُ الثَّانِيَةُ مِيكَائِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ يَمِينِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الرِّيحُ الثَّالِثَةُ إِسْرَافِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْسَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَةِ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَّ أَحَدَنَا يُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى رَأْسِ الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قَتَلُوهُمْ بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَعَلَى الْبَنَانِ مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ قَدْ أُحْرِقَ بِهِ، ذَكَرَ جَمِيعَهُ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ وَكَانَتْ عَلَامَةُ ضَرْبِهِمْ فِي الْكُفَّارِ ظَاهِرَةً، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ أَصَابَتْ ضَرْبَتُهُمُ اشْتَعَلَتِ النَّارُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، حَتَّى إِنَّ أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلني؟! إِنَّمَا قَتَلَنِي الَّذِي لَمْ يَصِلْ سِنَانِي إِلَى سُنْبُكِ فَرَسِهِ [[في د: قدميه. وسنبك الدابة طرف حافرها.]] وَإِنِ اجْتَهَدْتَ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي كَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ لَتَسْكِينِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ مُجَاهِدِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ عَسْكَرٍ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَيُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَشْهَدُونَ وَلَا يُقَاتِلُونَ إِنَّمَا يَكُونُونَ عَدَدًا أَوْ مَدَدًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي كَثْرَةِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ وَيُسَبِّحُونَ، وَيُكَثِّرُونَ [[في د وهـ وب: والثواب للذين يقاتلون ...]] الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ يَوْمَئِذٍ، فَعَلَى هَذَا لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ [[في هـ ود: إلا يوم بدر.]] وَإِنَّمَا حَضَرُوا لِلدُّعَاءِ بِالتَّثْبِيتِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِأَلْفٍ ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [[راجع ج ٧ ص ٣٧٠.]] وَقَوْلُهُ: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٤] وَقَوْلُهُ: ﴿بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٥] فَصَبَرَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَاتَّقَوُا اللَّهَ فَأَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ، فَهَذَا كُلُّهُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ آلَافٍ رِدْءٌ [[الردء: العون والناصر.]] لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَى يَوْمِ القيامة. قال الشعبي: بلغ النبي ﷺ وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ يُرِيدُ أَنْ يُمِدَّ الْمُشْرِكِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ: مُسَوِّمِينَ" فَبَلَغَ كُرْزًا الْهَزِيمَةُ فَلَمْ يُمِدَّهُمْ وَرَجَعَ، فَلَمْ يُمِدَّهُمُ [[في ج وا: فأمدهم. والمثبت هو ما في باقى الأصول وهو التحقيق قال الألوسي: ولم يمدوا بها بناء على تعليق الامداد بها بمجموع الأمور الثلاثة إلخ.]] اللَّهُ أَيْضًا بِالْخَمْسَةِ آلَافٍ، وَكَانُوا قَدْ مُدُّوا بِأَلْفٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ إِنْ صَبَرُوا عَلَى طَاعَتِهِ، وَاتَّقَوْا مَحَارِمَهُ أَنْ يُمِدَّهُمْ أَيْضًا فِي حُرُوبِهِمْ كُلِّهَا، فَلَمْ يَصْبِرُوا وَلَمْ يَتَّقُوا مَحَارِمَهُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، فَأَمَدَّهُمْ حِينَ حَاصَرُوا قُرَيْظَةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْمَدَدَ إِنْ صَبَرُوا، فَمَا صَبَرُوا فَلَمْ يُمِدَّهُمْ بِمَلَكٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ أُمِدُّوا لَمَا هُزِمُوا، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يمين رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَنْ يَسَارِهِ يَوْمَ بَدْرٍ [[في ب وهـ: يوم أحد.]] رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ أَشَدَّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. قِيلَ لَهُ: لَعَلَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ ﷺ، خَصَّهُ بِمَلَكَيْنِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِمْدَادًا لِلصَّحَابَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الرَّبُّ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَخْلُوقُ فَلْيُعَلِّقِ الْقَلْبَ بِاللَّهِ وَلْيَثِقْ بِهِ، فَهُوَ النَّاصِرُ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] [[راجع ج ١٥ ص ٦٠.]]. لَكِنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لِيَمْتَثِلَ الْخَلْقُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلٌ، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: ٦٢] [[راجع ج ١٤ ص ٢٤٧.]]، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي التَّوَكُّلِ. وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَسْبَابَ إِنَّمَا سُنَّتْ فِي حَقِّ الضُّعَفَاءِ لَا لِلْأَقْوِيَاءِ، فَإِنَّ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا الْأَقْوِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ هُمُ الضُّعَفَاءُ، وَهَذَا وَاضِحٌ. وَ "مَدَّ" فِي الشَّرِّ وَ "أَمَدَّ" فِي الْخَيْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ [[راجع ج ١ ص ٢٠٩.]]. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ "مُنْزِلِينَ" بِكَسْرِ الزَّايِ مُخَفَّفًا، يَعْنِي مُنْزِلِينَ النَّصْرَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ مُشَدَّدَةَ الزَّايِ مَفْتُوحَةً عَلَى التَّكْثِيرِ. ثُمَّ قَالَ: (بَلَى) وَتَمَّ الْكَلَامُ. "إِنْ تَصْبِرُوا" شَرْطٌ، أَيْ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ. (وَتَتَّقُوا) عَطْفٌ عليه، أي معصيته. والجواب "يُمِدَّكُمْ". وَمَعْنَى "مِنْ فَوْرِهِمْ" مِنْ وَجْهِهِمْ. هَذَا عَنْ عكرمة وقتادة والحسن والربيع والسدي وأبي زَيْدٍ. وَقِيلَ: مِنْ غَضَبِهِمْ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. كَانُوا قَدْ غَضِبُوا يَوْمَ أُحُدٍ لِيَوْمِ بَدْرٍ مِمَّا لَقُوا. وَأَصْلُ الْفَوْرِ الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِجِدٍّ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَتِ الْقِدْرُ تَفُورُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا إِذَا غَلَتْ. وَالْفَوْرُ الْغَلَيَانُ. وَفَارَ غَضَبُهُ إِذَا جَاشَ. وَفَعَلَهُ مِنْ فوره أي قبل أن يسكن. والفوراة مَا يَفُورُ مِنَ الْقِدْرِ. وَفِي التَّنْزِيلِ ﴿وَفارَ التَّنُّورُ﴾ [هود: ٤٠] [[راجع ج ٩ ص ٣٣.]]. قَالَ الشَّاعِرُ: تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ أَيْ مُعَلَّمِينَ بِعَلَامَاتٍ. وَ "مُسَوِّمِينَ" بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمُ فَاعِلٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ كَثِيرٍ وَعَاصِمٍ، فَيَحْتَمِلُ مِنَ الْمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ قَدْ أَعْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَلَامَةٍ، وَأَعْلَمُوا خَيْلَهُمْ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مُسَوِّمِينَ أَيْ مُرْسِلِينَ خَيْلَهُمْ، فِي الْغَارَةِ. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي "مُسَوِّمِينَ" بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَهُ ابْنُ فُورَكَ أَيْضًا. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي سِيمَا الْمَلَائِكَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ اعْتَمَّتْ بِعَمَائِمَ بِيضٍ قَدْ أَرْسَلُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ. إِلَّا جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ كَانَ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى مِثَالِ الزُّبَيْرِ بْنِ العوام، وقال ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: كَانَتْ سِيمَاهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ. قُلْتُ: ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ يَوْمَ بَدْرٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُعَلَّمِينَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ. فَقَوْلُهُ: "مُعَلَّمِينَ" دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَيْلَ الْبُلْقَ لَيْسَتِ السِّيمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ خَيْلُهُمْ مَجْزُوزَةَ الْأَذْنَابِ وَالْأَعْرَافِ مُعَلَّمَةَ النَّوَاصِي وَالْأَذْنَابِ بِالصُّوفِ وَالْعِهْنِ [[العهن: الصوف المصبوغ ألوانا.]]. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَسَوَّمَتِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ وَأَذْنَابِهَا. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي سِيمَا الزُّبَيْرِ عَلَيْهِمْ عمائم صفر مرخاة عَلَى أَكْتَافِهِمْ. وَقَالَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبَيْرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَانَتْ مُلَاءَةً صَفْرَاءَ اعْتَمَّ بِهَا الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قلت: ودلت الآية- وهي الرابعة- على اتخاذ [الشارة و] [[من دوفى هـ: الإشارة، والشارة: الهيئة.]] العلامة لِلْقَبَائِلِ وَالْكَتَائِبِ يَجْعَلُهَا السُّلْطَانُ لَهُمْ، لِتَتَمَيَّزَ كُلُّ قَبِيلَةٍ وَكَتِيبَةٍ مِنْ غَيْرِهَا عِنْدَ الْحَرْبِ، وَعَلَى فَضْلِ الْخَيْلِ الْبُلْقِ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهَا. قُلْتُ:- وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ عَلَيْهَا مُوَافَقَةً لِفَرَسِ الْمِقْدَادِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَبْلَقَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَرَسٌ غَيْرُهُ، فَنَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى الْخَيْلِ الْبُلْقِ إِكْرَامًا لِلْمِقْدَادِ، كَمَا نَزَلَ جِبْرِيلُ مُعْتَجِرًا [[الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقته، وفى ب: معتما.]] بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى مِثَالِ الزُّبَيْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا- وَهِيَ الْخَامِسَةُ- عَلَى لِبَاسِ الصُّوفِ وَقَدْ لَبِسَهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ لِي أَبِي: لَوْ شَهِدْتَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَصَابَتْنَا السَّمَاءُ لَحَسِبْتَ أَنَّ رِيحَنَا رِيحُ الضَّأْنِ. وَلَبِسَ ﷺ جُبَّةً رُومِيَّةً مِنْ صُوفٍ ضَيِّقَةِ الْكُمَّيْنِ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَلَبِسَهَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى مَزِيدُ بَيَانٍ فِي "النَّحْلِ" [[ج ١٠ ص ١٥٤.]] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- قُلْتُ: وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّ خَيْلَهُمْ كَانَتْ مَجْزُوزَةَ الأذناب والأعراف فبعد، فَإِنَّ فِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (لَا تَقُصُّوا نَوَاصِيَ الْخَيْلِ وَلَا مَعَارِفَهَا وَلَا أَذْنَابَهَا فَإِنَّ أَذْنَابَهَا مَذَابُّهَا وَمَعَارِفَهَا دِفَاؤُهَا وَنَوَاصِيَهَا مَعْقُودٌ فِيهَا الخير (. فيقول مُجَاهِدٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ مِنْ أَنَّ خَيْلَ الْمَلَائِكَةِ كَانَتْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى حُسْنِ الْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ مِنَ الْأَلْوَانِ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ لَبِسَ نَعْلًا أَصْفَرَ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهُ مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهِ مَوْتَاكُمْ وَأَمَّا الْعَمَائِمُ فَتِيجَانُ الْعَرَبِ وَلِبَاسُهَا (. وَرَوَى رُكَانَةُ- وَكَانَ صَارَعَ النَّبِيَّ ﷺ فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ- قَالَ رُكَانَةُ: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ [[كذا في د وهـ وب. وفى أوح: النحاس.]]: إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ سَمَاعُ بَعْضِهِ مِنْ بعض.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب