الباحث القرآني

الْعَامِلُ فِي إذ "تَبُوءَ" أَوْ "سَمِيعٌ عَلِيمٌ". وَالطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَا جَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ يَوْمَ أُحُدٍ. وَمَعْنَى (أَنْ تَفْشَلا) أَنْ تَجْبُنَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما "قَالَ: نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ: بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلِمَةَ، وَمَا نُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَاللَّهُ وَلِيُّهُما". وَقِيلَ: هُمْ بَنُو الْحَارِثِ وَبَنُو الْخَزْرَجِ وَبَنُو النَّبِيتِ، وَالنَّبِيتُ هُوَ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ مِنْ بَنِي الْأَوْسِ. وَالْفَشَلُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجُبْنِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّغَةِ. وَالْهَمُّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَانَ بَعْدَ الْخُرُوجِ لَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَحَفِظَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُما﴾ يعني قُلُوبَهُمَا عَنْ تَحْقِيقِ هَذَا الْهَمِّ. وَقِيلَ: أَرَادُوا التَّقَاعُدَ عَنِ الْخُرُوجِ، وَكَانَ ذَلِكَ صَغِيرَةً مِنْهُمْ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ حَدِيثَ نَفْسٍ مِنْهُمْ خَطَرَ بِبَالِهِمْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ فَازْدَادُوا بَصِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْخَوَرُ [[كذا في د وز وب.]] مُكْتَسَبًا لَهُمْ فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ، وَذَمَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَنَهَضُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى أَطَلَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ خُرُوجُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي أَلْفٍ، فَرَجَعَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بن سول بِثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مُغَاضِبًا [[كذا في دوب وهـ وج.]]، إِذْ خُولِفَ رَأْيُهُ حِينَ أَشَارَ بِالْقُعُودِ وَالْقِتَالِ فِي الْمَدِينَةِ إِنْ نَهَضَ إِلَيْهِمُ الْعَدُوُّ، وَكَانَ رَأْيُهُ وَافَقَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَأَبَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ، وَسَيَأْتِي. وَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْمُسْلِمِينَ فَاسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ. قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: قُتِلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَةٌ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ مَكَانُ الْقُعُودِ، [وَهَذَا] [[من دوب وهـ.]] بِمَنْزِلَةِ مَوَاقِفَ، وَلَكِنَّ لَفْظَ الْقُعُودِ دَالٌّ عَلَى الثُّبُوتِ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ الرُّمَاةَ كَانُوا قُعُودًا. هَذَا مَعْنَى حَدِيثِ غَزَاةِ أُحُدٍ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَسَيَأْتِي مِنْ تَفْصِيلِهَا مَا فِيهِ شِفَاءٌ. وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يومئذ مائة فرس عليها خاله بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فَرَسٌ. وَفِيهَا جُرِحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى بِحَجَرٍ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ [[البيضة: الخوذة، وهى زود ينسخ على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة، وفى ب ود وهـ، هشمت البيضة رأسه.]] مِنْ عَلَى رَأْسِهِ ﷺ، وَجَزَاهُ عَنْ أُمَّتِهِ ودينه بِأَفْضَلِ مَا جَزَى بِهِ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ عَلَى صَبْرِهِ. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ اللَّيْثِيُّ، وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ جَدَّ الْفَقِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ هُوَ الَّذِي شَجَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي جَبْهَتِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَالثَّابِتُ [[في ب ود وهـ: الثبت.]] عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي رَمَى فِي وَجْهِ [[في د وهـ وب، وجني النبي.]] النَّبِيِّ ﷺ ابن قميئة، والذي أَدْمَى [[في ب ود وهـ: رمى.]] شَفَتَهُ وَأَصَابَ رَبَاعِيَتَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شَهِدْتُ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إِلَى النَّبْلِ تَأْتِي مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَسَطَهَا كُلُّ [ذَلِكَ] [[زيادة عن مغازي الواقدي.]] يُصْرَفُ عَنْهُ. وَلَقَدْ رأيت عبد الله ابن شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. [وَأَنَّ] [[في ب ود وهـ: رمى.]] رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جَنْبِهِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ ثُمَّ جَاوَزَهُ، فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَانُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ، أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّهُ مِنَّا مَمْنُوعٌ! خَرَجْنَا أَرْبَعَةً فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ [فَلَمْ نَخْلُصْ [[زيادة عن مغازي الواقدي.]] إِلَى ذَلِكَ]. وَأَكَبَّتِ الْحِجَارَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى سَقَطَ فِي حُفْرَةٍ، كَانَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ قَدْ حَفَرَهَا مَكِيدَةً لِلْمُسْلِمِينَ، فَخَرَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جَنْبِهِ وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ حَتَّى قَامَ، وَمَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مِنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الدَّمَ، وتشبثت [[في د: تشبت، وفى هـ: نشبت.]] حَلْقَتَانِ مِنْ دِرْعِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْهِهِ ﷺ فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجراح وعض عليهما بثنيتيه فَسَقَطَتَا، فَكَانَ أَهْتَمَ يَزِينُهُ هَتَمُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي هَذِهِ الْغَزَاةِ قُتِلَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ، وَكَانَ وَحْشِيٌّ مَمْلُوكًا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ. وَقَدْ كَانَ جُبَيْرٌ قَالَ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا جَعَلْنَا لَكَ أَعِنَّةَ الْخَيْلِ، وَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ جَعَلْنَا لَكَ مِائَةَ نَاقَةٍ كُلُّهَا سُودُ الْحَدَقِ، وَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ فَأَنْتَ حُرٌّ. فَقَالَ وَحْشِيٌّ: أَمَّا مُحَمَّدٌ فَعَلَيْهِ حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ لَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَأَمَّا عَلِيٌّ مَا بَرَزَ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ. وَأَمَّا حَمْزَةُ فَرَجُلٌ شُجَاعٌ، وَعَسَى أَنْ أُصَادِفَهُ فَأَقْتُلَهُ. وَكَانَتْ هِنْدٌ كُلَّمَا تَهَيَّأَ وَحْشِيٌّ أَوْ مَرَّتْ بِهِ قَالَتْ: إِيهًا أَبَا دَسَمَةَ اشْفِ وَاسْتَشْفِ. فَكَمِنَ لَهُ خَلْفَ صَخْرَةٍ، وَكَانَ حَمْزَةُ حَمَلَ عَلَى الْقَوْمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ حَمْلَتِهِ وَمَرَّ بِوَحْشِيٍّ زَرَقَهُ بِالْمِزْرَاقِ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا [[كذا في د، وفى ب وهـ وح: فسقط منها.]] رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَقَرَتْ هِنْدٌ عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ فَلَاكَتْهَا وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَسِيغَهَا فَلَفَظَتْهَا ثُمَّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ: نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرِ ... وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي من صبر ... ولا أخي وعمه بكري شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي ... شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيلَ صَدْرِي فَشُكْرُ وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي ... حَتَّى تَرِمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي فَأَجَابَتْهَا هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ: خَزِيتِ فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرِ ... يَا بِنْتَ وَقَّاعٍ عَظِيمَ الْكُفْرِ صَبَّحَكِ اللَّهُ غَدَاةَ الْفَجْرِ ... مِلْهَاشِمِيِّينَ الطِّوَالِ الزُّهْرِ بِكُلِّ قَطَّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي ... حَمْزَةُ لَيْثِي وَعَلِيٌّ صَقْرِي إِذْ رَامَ شَيْبَ [[أرادت شيبة بن ربيعة أبا هند. وقد رخم هنا في غير النداء لضرورة الشعر.]] وَأَبُوكِ غدى ... فَخَضَبَا [[في د: مخضبا.]] مِنْهُ ضَوَاحِيَ النَّحْرِ وَنَذْرِكِ السُّوءَ فَشَرُّ نَذْرِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَبْكِي حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا ... وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ عَلَى أَسَدِ الْإِلَهِ غَدَاةَ قَالُوا ... أَحَمْزَةُ ذَاكُمُ الرَّجُلُ الْقَتِيلُ أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ جَمِيعًا ... هُنَاكَ، وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ الرَّسُولُ أَبَا يَعْلَى لَكَ الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصل عَلَيْكَ سَلَامُ رَبِّكِ فِي جِنَانٍ ... مُخَالِطُهَا نَعِيمٌ لَا يَزُولُ أَلَا يَا هَاشِمَ الْأَخْيَارِ صَبْرًا ... فَكُلُّ فِعَالِكُمْ حَسَنٌ جَمِيلُ رَسُولُ اللَّهِ مُصْطَبِرٌ كَرِيمُ ... بِأَمْرِ اللَّهِ يَنْطِقُ إِذْ يَقُولُ أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لُؤَيًّا ... فَبَعْدَ الْيَوْمِ دَائِلَةٌ تَدُولُ وَقَبْلَ الْيَوْمِ مَا عَرَفُوا وَذَاقُوا ... وَقَائِعَنَا بِهَا يُشْفَى الْغَلِيلُ نَسِيتُمْ ضَرْبَنَا بِقَلِيبِ [[القليب (بفتح أوله وكسر ثانيه): البئر العادية القديمة التي لا يعلم لها رب ولا حافر تكون في البراري، يذكر ويؤنث.]] بَدْرٍ ... غَدَاةً أَتَاكُمُ الْمَوْتُ الْعَجِيلُ غَدَاةَ ثَوَى أَبُو جَهْلٍ صَرِيعًا ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَائِمَةً تَجُولُ وَعُتْبَةُ وَابْنُهُ خَرَّا جَمِيعًا ... وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ وَمَتْرَكُنَا أُمَيَّةَ مُجْلَعِبًّا [[المجلعب: المصروع إما ميتا وإما صرعا شديدا.]] ... وَفِي حَيْزُومِهِ لَدْنٌ نَبِيلُ [[الحيزوم: وسط الصدر وما يضم عليه الحزام. واللدن: الرمح.]] وهام بني ربيعة سائلوها ... ففي أسيافها مِنْهَا فُلُولُ أَلَا يَا هِنْدُ لَا تُبْدِي شَمَاتًا ... بِحَمْزَةَ إِنَّ عِزَّكُمُ ذَلِيلُ أَلَا يَا هِنْدُ فَابْكِي لَا تَمَلِّي ... فَأَنْتِ الْوَالِهُ الْعَبْرَى الْهَبُولُ [[الهبول من النساء: الثكول.]] وَرَثَتْهُ أَيْضًا أُخْتُهُ صَفِيَّةُ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي السِّيرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ بَيَانُ التَّوَكُّلِ. وَالتَّوَكُّلُ فِي اللُّغَةِ إِظْهَارُ الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الْغَيْرِ [[في ب ود: غيرك وفى هـ: غيره.]] وَوَاكَلَ فُلَانٌ إِذَا ضَيَّعَ أَمْرَهُ مُتَّكِلًا عَلَى غَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ، فَسُئِلَ عَنْهُ سَهْلُ بن عبد الله فقال: قالت فرقة أرض الرِّضَا بِالضَّمَانِ، وَقَطْعُ الطَّمَعِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ: التَّوَكُّلُ تَرْكُ الْأَسْبَابِ وَالرُّكُونُ إِلَى مُسَبَّبِ الْأَسْبَابِ، فَإِذَا شَغَلَهُ السَّبَبُ عَنِ الْمُسَبِّبِ زَالَ عَنْهُ اسْمُ التَّوَكُّلِ. قَالَ سَهْلٌ: مَنْ قَالَ إِنَّ التَّوَكُّلَ يَكُونُ بِتَرْكِ السَّبَبِ فَقَدْ طَعَنِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً﴾ [الأنفال: ٦٩] [[راجع ج ٨ ص ٥١.]] فَالْغَنِيمَةُ اكْتِسَابٌ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ﴾ [الأنفال: ١٢] [[راجع ج ٧ ص ٣٧٧.]] فَهَذَا عَمَلٌ. وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ). وَكَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُقْرِضُونَ عَلَى السَّرِيَّةِ [[السرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة سموا بذلك لأنهم تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس.]]. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ هُوَ الثِّقَةُ بِاللَّهِ وَالْإِيقَانُ بِأَنَّ قَضَاءَهُ مَاضٍ، وَاتِّبَاعُ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ فِي السعي فيما لأبد مِنْهُ مِنَ الْأَسْبَابِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَتَحَرُّزٍ مِنْ عَدُوٍّ وَإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ وَاسْتِعْمَالِ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُعْتَادَةُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُحَقِّقُو الصُّوفِيَّةِ، لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ التَّوَكُّلِ عِنْدَهُمْ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا بِالْقُلُوبِ، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِبُ نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ ضُرًّا، بَلِ السَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكُلُّ مِنْهُ وَبِمَشِيئَتِهِ، وَمَتَى وَقَعَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِ رُكُونٌ إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ فَقَدِ انْسَلَخَ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على حَالَيْنِ: الْأَوَّلُ- حَالُ الْمُتَمَكِّنِ فِي التَّوَكُّلِ فَلَا يلتفت إلى شي مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ بِقَلْبِهِ، وَلَا يَتَعَاطَاهُ إِلَّا بِحُكْمِ الْأَمْرِ. الثَّانِي- حَالُ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ وَهُوَ الَّذِي يَقَعُ لَهُ الِالْتِفَاتُ إِلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ أَحْيَانًا غَيْرَ أَنَّهُ يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ بِالطُّرُقِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْأَذْوَاقِ الْحَالِيَّةِ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُرَقِّيَهُ اللَّهُ بِجُودِهِ إِلَى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب