الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ﴾ الضَّمِيرُ فِي "قَبْلِهِ" عَائِدٌ إِلَى الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، أَيْ وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَقْرَأُ قَبْلَهُ، وَلَا تَخْتَلِفُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ فِي غَايَةِ الْإِعْجَازِ وَالتَّضْمِينِ لِلْغُيُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَقْرَأُ كِتَابًا، وَيَخُطُّ حُرُوفًا "لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ" أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ لَهُمْ فِي ارْتِيَابِهِمْ مُتَعَلَّقٌ، وَقَالُوا الَّذِي نَجِدُهُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَلَيْسَ بِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَا يَخُطُّ وَلَا يَقْرَأُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ النَّحَّاسُ: دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ لِقُرَيْشٍ، لِأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا يُخَالِطُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَهْلُ الْكِتَابِ فَجَاءَهُمْ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَزَالَتِ الرِّيبَةُ والشك. الثَّانِيَةُ- ذَكَرَ النَّقَّاشُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا مَاتَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى كَتَبَ. وَأَسْنَدَ أيضا حديث أبي كشة السَّلُولِيِّ، مُضْمَنُهُ: أَنَّهُ ﷺ قَرَأَ صَحِيفَةً لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَأَخْبَرَ بِمَعْنَاهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ، وَقَوْلُ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْهُ. قُلْتُ: وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِعَلِيٍّ: "اكْتُبِ الشَّرْطَ بَيْنَنَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ تَابَعْنَاكَ- وَفِي رِوَايَةٍ بَايَعْنَاكَ- وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ عليا أن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه [[محا الشيء يمحوه ويمحاه محوا ومحيا أذهب أثره.]]. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَرِنِي مَكَانَهَا" فَأَرَاهُ فَمَحَاهَا وَكَتَبَ ابْنُ عَبْدِ الله. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَحَا تِلْكَ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ رَسُولُ اللَّهِ- ﷺ- بِيَدِهِ، وَكَتَبَ مَكَانَهَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِأَظْهَرَ مِنْ هَذَا. فَقَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْكُتَّابَ فَكَتَبَ. وَزَادَ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى: وَلَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ: بِجَوَازِ هَذَا الظَّاهِرِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ كَتَبَ بِيَدِهِ، مِنْهُمِ السِّمَنَانِيُّ وَأَبُو ذَرٍّ [[السمنان هو أبو عمرو الفلسطيني. وأبو ذر هو عبد الله بن أحمد الهروي، والباجى هو أبو الوليد.]] وَالْبَاجِيُّ، وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي كَوْنِهِ أُمِّيًّا، وَلَا مُعَارِضَ بِقَوْلِهِ: "وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ" وَلَا بِقَوْلِهِ: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ" بَلْ رَأَوْهُ زِيَادَةً فِي مُعْجِزَاتِهِ، وَاسْتِظْهَارًا عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ لِكِتَابَةٍ، وَلَا تَعَاطٍ لِأَسْبَابِهَا، وَإِنَّمَا أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِهِ وَقَلَمِهِ حَرَكَاتٍ كَانَتْ عَنْهَا خُطُوطٌ مَفْهُومُهَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِمَنْ قَرَأَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، كَمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ وَلَا اكْتِسَابٍ، فَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي مُعْجِزَاتِهِ، وَأَعْظَمَ فِي فضائله. لا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْأُمِّيِّ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّاوِي عَنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: وَلَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ. فَبَقِيَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأُمِّيِّ مَعَ كَوْنِهِ قَالَ كَتَبَ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ: وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا كَثِيرٌ من مُتَفَقِّهَةِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهِمْ وَشَدَّدُوا النَّكِيرَ فِيهِ، وَنَسَبُوا قَائِلَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَعَدَمِ التَّوَقُّفِ فِي تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَفَطَّنُوا، لِأَنَّ تَكْفِيرَ الْمُسْلِمِ كَقَتْلِهِ عَلَى مَا جَاءَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ، لَا سِيَّمَا رَمْيُ مَنْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ الْعَصْرِ بِالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالْإِمَامَةِ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً، بَلْ مُسْتَنَدُهَا ظَوَاهِرُ أَخْبَارِ آحَادٍ صَحِيحَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُهَا. وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ قَاطِعٌ يُحِيلُ وُقُوعَهَا. قُلْتُ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ هِيَ آيَةٌ خَارِقَةٌ، فَيُقَالُ لَهُ: كَانَتْ تَكُونُ آيَةً لَا تُنْكَرُ لَوْلَا أَنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ كَوْنُهُ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ، وَبِكَوْنِهِ أُمِّيًّا فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ قَامَتِ الْحُجَّةُ، وَأُفْحِمَ الْجَاحِدُونَ، وَانْحَسَمَتِ الشُّبْهَةُ، فَكَيْفَ يُطْلِقُ اللَّهُ تَعَالَى يَدَهُ فَيَكْتُبُ وَتَكُونُ آيَةً. وَإِنَّمَا الْآيَةُ أَلَّا يَكْتُبَ، وَالْمُعْجِزَاتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَإِنَّمَا مَعْنَى كَتَبَ وَأَخَذَ الْقَلَمَ، أَيْ أَمَرَ مَنْ يَكْتُبُ بِهِ مِنْ كُتَّابِهِ، وَكَانَ مِنْ كَتَبَةِ الْوَحْيِ بَيْنَ يَدَيْهِ ﷺ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ كَاتِبًا. الثَّالِثَةُ- ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لَهُ: "أَلْقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفِ الْقَلَمَ وَأَقِمِ الْبَاءَ وَفَرِّقِ السِّينَ وَلَا تُعَوِّرِ الْمِيمَ وَحَسِّنِ اللَّهَ وَمُدَّ الرَّحْمَنَ وَجَوِّدِ الرَّحِيمَ" قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا وَإِنْ لَمْ تَصِحِّ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ ﷺ كَتَبَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ هَذَا، وَيُمْنَعَ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ أَنَّهُ مَا كَتَبَ وَلَا حَرْفًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ مَنْ يَكْتُبُ، وَكَذَلِكَ مَا قَرَأَ وَلَا تَهَجَّى. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَهَجَّى النَّبِيُّ ﷺ حِينَ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فقال: "مكتوب بين عينيه ك اف ر" وَقُلْتُمْ إِنَّ الْمُعْجِزَةَ قَائِمَةٌ فِي كَوْنِهِ أميا، قال الله تعالى: "وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ" الْآيَةَ وَقَالَ: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ" فَكَيْفَ هَذَا؟ فَالْجَوَابُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ ﷺ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَالْحَدِيثُ كَالْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ "يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ" فَقَدْ نَصَّ في ذلك على غير الكتاب مِمَّنْ يَكُونُ أُمِّيًّا. وَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ مَا يكون جليا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب