الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى﴾ لَمَّا قَالَ تَعَالَى: "وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها" بَيَّنَ أَنَّ قَارُونَ أُوتِيهَا وَاغْتَرَّ بِهَا وَلَمْ تَعْصِمْهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَمَا لَمْ تَعْصِمْ فِرْعَوْنَ، وَلَسْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِأَكْثَرَ عَدَدًا وَمَالًا مِنْ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ، فَلَمْ يَنْفَعْ فِرْعَوْنَ جُنُودُهُ وَأَمْوَالُهُ، وَلَمْ يَنْفَعْ قَارُونَ قَرَابَتُهُ مِنْ مُوسَى وَلَا كُنُوزُهُ. قَالَ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى لَحًّا، وَهُوَ قَارُونُ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ عَمَّ مُوسَى لِأَبٍ وَأُمٍّ. وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ خَالَتِهِ. وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ. وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِ فَاعُولَ أَعْجَمِيًّا لَا يَحْسُنُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لَمْ يَنْصَرِفْ فِي الْمَعْرِفَةِ وَانْصَرَفَ فِي النَّكِرَةِ، فَإِنْ حَسُنَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ انْصَرَفَ إِنْ كَانَ اسْمًا لِمُذَكَّرٍ نَحْوَ طَاوُسٍ وَرَاقُودٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَوْ كَانَ قَارُونُ مِنْ قَرَنْتُ الشَّيْءَ لَانْصَرَفَ.
(فَبَغى عَلَيْهِمْ) بَغْيُهُ أَنَّهُ زَادَ فِي طُولِ ثَوْبِهِ شِبْرًا، قَالَهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ. وَفِي الْحَدِيثِ "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا" وَقِيلَ: بَغْيُهُ كُفْرُهُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: بَغْيُهُ اسْتِخْفَافُهُ بِهِمْ بِكَثْرَةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: بَغْيُهُ نِسْبَتُهُ مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الْكُنُوزِ إِلَى نَفْسِهِ بِعِلْمِهِ وَحِيلَتِهِ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: بَغْيُهُ قَوْلُهُ إِذَا كَانَتِ النبوة لموسى والمذبح والقربان في هرون فمالي! فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا جَاوَزَ بِهِمْ مُوسَى الْبَحْرَ وَصَارَتِ الرِّسَالَةُ لِمُوسَى وَالْحُبُورَةُ لِهَارُونَ، يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ وَيَكُونُ رَأْسًا فِيهِمْ، وَكَانَ الْقُرْبَانُ لِمُوسَى فَجَعَلَهُ مُوسَى إِلَى أَخِيهِ، وَجَدَ قَارُونُ فِي نَفْسِهِ وَحَسَدَهُمَا فَقَالَ لِمُوسَى: الْأَمْرُ لَكُمَا وَلَيْسَ لِي شي إِلَى مَتَى أَصْبِرُ. قَالَ مُوسَى: هَذَا صُنْعُ اللَّهِ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقَنَّكَ حَتَّى تَأْتِيَ بآية، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجئ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَصَاهُ، فَحَزَمَهَا وَأَلْقَاهَا فِي الْقُبَّةِ الَّتِي كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَكَانُوا يَحْرُسُونَ عِصِيِّهِمْ بِاللَّيْلِ فَأَصْبَحُوا وَإِذَا بِعَصَا هرون تَهْتَزُّ وَلَهَا وَرَقٌ أَخْضَرُ- وَكَانَتْ مِنْ شَجَرِ اللَّوْزِ- فَقَالَ قَارُونُ: مَا هُوَ بِأَعْجَبَ مِمَّا تَصْنَعُ مِنَ السِّحْرِ. "فَبَغى عَلَيْهِمْ" مِنَ الْبَغْيِ وَهُوَ الظُّلْمُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: كَانَ قَارُونُ غَنِيًّا عَامِلًا لِفِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ وَظَلَمَهُمْ وَكَانَ مِنْهُمْ وَقَوْلٌ سَابِعٌ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَجْمِ الزَّانِي عَمَدَ قَارُونُ إِلَى امْرَأَةٍ بَغِيٍّ وَأَعْطَاهَا مَالًا، وَحَمَلَهَا عَلَى أَنِ ادَّعَتْ عَلَى مُوسَى أَنَّهُ زَنَى بِهَا وَأَنَّهُ أَحْبَلَهَا، فَعَظُمَ عَلَى مُوسَى ذَلِكَ وَأَحْلَفَهَا بِاللَّهِ الَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى إِلَّا صَدَقَتْ. فَتَدَارَكَهَا اللَّهُ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أنك برئ، وَأَنَّ قَارُونَ أَعْطَانِي مَالًا، وَحَمَلَنِي عَلَى أَنْ قُلْتُ مَا قُلْتُ، وَأَنْتَ الصَّادِقُ وَقَارُونُ الْكَاذِبُ. فَجَعَلَ اللَّهُ أَمْرَ قَارُونَ إِلَى مُوسَى وَأَمَرَ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَهُ. فَجَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ لِلْأَرْضِ: يَا أَرْضُ خُذِيهِ، وَهِيَ تَأْخُذُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ يَسْتَغِيثُ يَا مُوسَى! إِلَى أَنْ سَاخَ فِي الْأَرْضِ هُوَ وَدَارُهُ وَجُلَسَاؤُهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى: اسْتَغَاثَ بِكَ عِبَادِي فَلَمْ تَرْحَمْهُمْ، أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ دَعَوْنِي لَوَجَدُونِي قَرِيبًا مُجِيبًا. ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةً، فَلَا يَبْلُغُونَ إِلَى أَسْفَلِ الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْفَرَجِ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَاشِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنِ الْوَلِيدِ بن مسلم، عن مروان ابن جَنَاحٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ قَالَ: لَقِيَ قَارُونُ يُونُسَ فِي ظُلُمَاتِ الْبَحْرِ، فَنَادَى قَارُونُ يُونُسَ، فَقَالَ: يَا يُونُسُ: تُبْ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ عِنْدَ أَوَّلِ قَدَمٍ تَرْجِعُ بِهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ يُونُسُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ التَّوْبَةِ. فَقَالَ: إِنَّ تَوْبَتِي جُعِلَتْ إِلَى ابْنِ عَمِّي فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنِّي. وَفِي الْخَبَرِ: إِذَا وَصَلَ قَارُونُ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ نَفَخَ إِسْرَافِيلُ فِي الصُّوَرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ اسْمُ الْبَغِيِّ سَبَرَتَا، وَبَذَلَ لَهَا قَارُونُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ. قَتَادَةُ: وَكَانَ قَطَعَ الْبَحْرَ مَعَ مُوسَى وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوِّرَ مِنْ حُسْنِ صُورَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾ قَالَ عَطَاءٌ: أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ كُنُوزِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مَرْوَانَ: إِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ الْكِيمْيَاءَ.
(مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ) "إِنَّ" وَاسْمَهَا وَخَبَرَهَا فِي صِلَةِ "مَا" و "ما" مفعولة "آتَيْناهُ". قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ
يَقُولُ مَا أَقْبَحَ مَا يَقُولُ الْكُوفِيُّونَ فِي الصِّلَاتِ، إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِلَةُ الَّذِي وَأَخَوَاتُهُ "إِنَّ" وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ، وَفِي الْقُرْآنِ "مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ". وَهُوَ جَمْعُ مِفْتَحٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ مَا يُفْتَحُ بِهِ. وَمَنْ قَالَ مِفْتَاحٌ قَالَ مَفَاتِيحُ. وَمَنْ قال هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح.
(لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى لتنئ الْعُصْبَةَ أَيْ تُمِيلُهُمْ بِثِقَلِهَا، فَلَمَّا انْفَتَحَتِ التَّاءُ دَخَلَتِ الْبَاءُ. كَمَا قَالُوا هُوَ يَذْهَبُ بِالْبُؤْسِ ومذهب البؤس. فصار "لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ" فَجَعَلَ الْعُصْبَةَ تَنُوءُ أَيْ تَنْهَضُ مُتَثَاقِلَةً، كَقَوْلِكَ قُمْ بِنَا أَيِ اجْعَلْنَا نَقُومُ. يُقَالُ: نَاءَ يَنُوءُ نَوْءًا إِذَا نَهَضَ بِثِقَلٍ. قَالَ الشاعر [[هو ذو الرمة. يريد تنيئها عجيزتها إلى الأرض لضخامتها وكثرة لحمها في أردافها.]]:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها ... وتمشي الهوينى عَنْ قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ
وَقَالَ آخَرُ:
أَخَذْتُ فَلَمْ أملك ونوت فَلَمْ أَقُمْ ... كَأَنِّيَ مِنْ طُولِ الزَّمَانِ مُقَيَّدُ
وَأَنَاءَنِي إِذَا أَثْقَلَنِي، عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَقَالَ أبو عبيدة: قوله "لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ" مَقْلُوبٌ، وَالْمَعْنَى لَتَنُوءُ بِهَا الْعُصْبَةُ أَيْ تنهض بها. أبو زيد: نوت بِالْحِمْلِ إِذَا نَهَضْتُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الْخَلَفْ ... عَبْدًا إِذَا مَا نَاءَ بِالْحِمْلِ وَقَفْ
وَالْأَوَّلُ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَالسُّدِّيِّ. وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ. كَمَا يُقَالُ: ذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُهُ وَجِئْتُ به وأجأته ونوت بِهِ وَأَنَأْتُهُ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَهُ عِنْدِي مَا سَاءَهُ وَنَاءَهُ فَهُوَ إِتْبَاعٌ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ وَأَنَاءَهُ. وَمِثْلُهُ هَنَّأَنِي الطَّعَامَ وَمَرَّأَنِي، وَأَخْذُهُ مَا قَدُمَ وَمَا حَدُثَ وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّأْيِ وَهُوَ الْبُعْدُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
ينأون عنا وما تنأى مودتهم ... فالقلب فِيهِمْ رَهِينٌ حَيْثُمَا كَانُوا
وَقَرَأَ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ: "لَيَنُوءُ" بِالْيَاءِ، أَيْ لَيَنُوءُ الْوَاحِدُ مِنْهَا أَوِ الْمَذْكُورُ فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قُلْتُ لِرُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ فِي قَوْلِهِ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ الْخُطُوطَ فَقُلْ كَأَنَّهَا، وَإِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ السَّوَادَ وَالْبَلَقَ فَقُلْ كَأَنَّهُمَا. فَقَالَ: أَرَدْتُ كُلَّ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْعُصْبَةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي يَتَعَصَّبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ- ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا مِنَ الثلاثة إلى العشرة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعُصْبَةُ هُنَا مَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مَا بَيْنَ الْعَشْرَةِ إِلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى خَمْسَةٍ. ذَكَرَ الْأَوَّلَ الثَّعْلَبِيُّ، وَالثَّانِيَ الْقُشَيْرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالثَّالِثُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. السُّدِّيُّ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ أَيْضًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَرْبَعُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ سَبْعُونَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي صَالِحٍ إِنَّ الْعُصْبَةَ سَبْعُونَ رَجُلًا، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ عَنْهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقِيلَ: سِتُّونَ رَجُلًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالتِّسْعَةِ وَهُوَ النَّفَرُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَشَرَةٌ لِقَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ "وَنَحْنُ عُصْبَةٌ" وَقَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ خَيْثَمَةُ: وَجَدْتُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ قَارُونَ وَقْرُ سِتِّينَ بَغْلًا غَرَّاءَ محجلة، وأنها لتنوء بها من ثِقَلَهَا، وَمَا يَزِيدُ مِفْتَحٌ مِنْهَا عَلَى إِصْبَعٍ، لِكُلِّ مِفْتَحٍ مِنْهَا كَنْزُ مَالٍ، لَوْ قُسِمَ ذَلِكَ الْكَنْزُ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَكَفَاهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَفَاتِيحُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ. وَقِيلَ: مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ لِتَخِفَّ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ تُحْمَلُ مَعَهُ إِذَا رَكِبَ عَلَى سَبْعِينَ بَغْلًا فِيمَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقِيلَ: عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلًا. وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: إِنَّ مَفَاتِحَهُ أَوْعِيَتُهُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَفَاتِحِ الْخَزَائِنُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) أَيِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: الْقَوْمُ هُنَا مُوسَى. وقاله الْفَرَّاءُ. وَهُوَ جَمْعٌ أُرِيدَ بِهِ وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ: "الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ" وَإِنَّمَا هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(لَا تَفْرَحْ) أي لا تأشر ولا تبطر.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي البطرين، قاله مجاهد والسدي. قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إِذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي وَلَا ضَارِعٌ فِي صَرْفِهِ [[ويروى: ولا جازع من صرفها المتحول.]] الْمُتَقَلِّبِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَا تَفْرَحْ بِالْمَالِ فَإِنَّ الْفَرِحَ بِالْمَالِ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ. وَقَالَ مُبَشَّرُ [[التصحيح من النسخة الخيرية.]] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَا تَفْرَحْ لَا تُفْسِدْ. قَالَ الشَّاعِرُ [[أنشده أبو عبيدة لبيعس العذري.]]:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدِّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أخرى أفرحتك الودائع
أَيْ أَفْسَدَتْكَ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَفْرَحَهُ الدَّيْنُ أَثْقَلَهُ. وَأَنْشَدَهُ: إِذَا أَنْتَ ... الْبَيْتَ. وَأَفْرَحَهُ سَرَّهُ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْفَرِحِينَ وَالْفَارِحِينَ سَوَاءٌ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْفَرَّاءُ فَقَالَ: مَعْنَى الْفَرِحِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي حَالِ فَرَحٍ، وَالْفَارِحِينَ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَزَعَمَ أَنَّ مِثْلَهُ طَمِعٌ وَطَامِعٌ وَمَيِّتٌ وَمَائِتٌ. وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ" وَلَمْ يَقُلْ مَائِتٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مَعْنَى "لَا تَفْرَحْ" لَا تَبْغِ "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" أَيِ الْبَاغِينَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَا تَبْخَلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْبَاخِلِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ أَيِ اطْلُبْ فِيمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا الدَّارَ الْآخِرَةَ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَإِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَصْرِفَ الدُّنْيَا فِيمَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي التَّجَبُّرِ وَالْبَغْيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا﴾ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: لَا تُضَيِّعْ عُمْرَكَ فِي أَلَّا تَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا فِي دُنْيَاكَ، إِذِ الْآخِرَةُ إِنَّمَا يُعْمَلُ لَهَا، فَنَصِيبُ الْإِنْسَانِ عُمْرُهُ وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ فِيهَا. فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ شِدَّةٌ فِي الْمَوْعِظَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا تُضَيِّعُ حَظَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ فِي تَمَتُّعِكَ بِالْحَلَالِ وَطَلَبِكَ إِيَّاهُ، وَنَظَرِكَ لِعَاقِبَةِ دُنْيَاكَ. فَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِيهِ بَعْضُ الرِّفْقِ بِهِ وَإِصْلَاحُ الْأَمْرِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ. وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْمَوْعُوظِ خَشْيَةَ النَّبْوَةِ مِنَ الشِّدَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ قَدْ جَمَعَهُمَا ابْنُ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: احْرُثْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَدًا، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَدًا وَعَنِ الْحَسَنِ: قَدِّمِ الْفَضْلَ، وَأَمْسِكْ مَا يُبَلِّغُ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِلَا سَرَفٍ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِنَصِيبِهِ الْكَفَنَ. فَهَذَا وَعْظٌ مُتَّصِلٌ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَنْسَ أَنَّكَ تَتْرُكُ جَمِيعَ مَالِكَ إِلَّا نَصِيبَكَ هَذَا الَّذِي هُوَ الْكَفَنُ. وَنَحْوَ هَذَا قَوْلُ الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداء ان تُلْوَى فِيهِمَا وَحَنُوطُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَهِيَ الْقَنَاعَةُ لَا تَبْغِي بِهَا بَدَلًا ... فِيهَا النَّعِيمُ وَفِيهَا رَاحَةُ الْبَدَنِ
انْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا ... هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ الْقُطْنِ وَالْكَفَنِ
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَبْدَعَ مَا فِيهِ عِنْدِي قَوْلُ قَتَادَةِ: وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ الْحَلَالَ، فَهُوَ نَصِيبُكَ مِنَ الدُّنْيَا وَيَا مَا أَحْسَنَ هَذَا.
(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أَيْ أَطِعِ اللَّهَ وَاعْبُدْهُ كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ.
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ) وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِصِلَةِ الْمَسَاكِينِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِمَاعُهَا اسْتِعْمَالُ نِعَمِ اللَّهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وقال مالك: هو الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَرَى مَالِكًا أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى الْغَالِينَ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقَشُّفِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ، وَيَسْتَعْمِلُ الشِّوَاءَ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ لَا تَعْمَلْ بِالْمَعَاصِي (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)
{"ayahs_start":76,"ayahs":["۞ إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ","وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ"],"ayah":"وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق