الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا﴾ هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي مَكَّةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ قُرَيْشٍ الْحَارِثُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَكَ حَقٌّ، وَلَكِنْ يَمْنَعُنَا أَنْ نَتَّبِعَ الْهُدَى مَعَكَ، وَنُؤْمِنَ بِكَ، مَخَافَةُ أَنْ يَتَخَطَّفَنَا الْعَرَبُ مِنْ أَرْضِنَا- يَعْنِي مَكَّةَ- لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى خِلَافِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ. وَكَانَ هَذَا مِنْ تَعَلُّلَاتِهِمْ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا اعْتَلَّ بِهِ فَقَالَ: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أَيْ ذَا أَمْنٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَهْلُ مَكَّةَ آمِنُونَ حَيْثُ كَانُوا بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ أَمَّنَهُمْ بِحُرْمَةِ الْبَيْتِ، وَمَنَعَ عَنْهُمْ عَدُوَّهُمْ، فَلَا يَخَافُونَ أَنْ تَسْتَحِلَّ الْعَرَبُ حُرْمَةً فِي قِتَالِهِمْ. وَالتَّخَطُّفُ الِانْتِزَاعُ بِسُرْعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ يَقُولُ: كُنْتُمْ آمِنِينَ فِي حَرَمِي، تَأْكُلُونَ رِزْقِي، وَتَعْبُدُونَ غَيْرِي، أَفَتَخَافُونَ إِذَا عَبَدْتُمُونِي وَآمَنْتُمْ بِي. (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ يُجْمَعُ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ أَرْضٍ وَبَلَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. يُقَالُ: جَبَى الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعَهُ. وَالْجَابِيَةُ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ. وَقَرَأَ نَافِعٌ: "تُجْبَى" بِالتَّاءِ، لِأَجْلِ الثَّمَرَاتِ. والياقوت بِالْيَاءِ، لِقَوْلِهِ: "كُلِّ شَيْءٍ" وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ: لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ الِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ وَبَيْنَ فِعْلِهِ حَائِلٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ الثَّمَرَاتِ جَمْعٌ، وَلَيْسَ بتأنيث حقيقي. (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعقلون، أي هم غافلون عن الاستدلال، وأن من رزقهم وأمنهم فيما مضى حال كفرهم يرزقهم لو أسلموا، ويمنع الكفار عنهم في إسلامهم. "رِزْقاً" نصب على المفعول من أجله. ويجوز نصبه على المصدر بالمعنى، لان معنى "تجبى" ترزق. وقرى "تجبني" بالنون من الجنا، وتعديته بإلى كَقَوْلِكَ يَجْنِي إِلَى فِيهِ وَيُجْنَى إِلَى الْخَافَّةِ [[الخافة العيبة ومنه الحديث "المؤمن كمثل خافه الزرع".]]. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها﴾ بَيَّنَ لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَوْ آمَنَ لَقَاتَلَتْهُ الْعَرَبُ أَنَّ الْخَوْفَ فِي تَرْكِ الْإِيمَانِ أَكْثَرُ، فَكَمْ مِنْ قَوْمٍ كَفَرُوا ثُمَّ حَلَّ بهم البوار، والبطر وَالطُّغْيَانُ بِالنِّعْمَةِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ "مَعِيشَتَها" أَيْ فِي مَعِيشَتِهَا فَلَمَّا حُذِفَ (فِي) تَعَدَّى الْفِعْلُ، قَالَهُ الْمَازِنِيُّ. الزَّجَّاجُ كَقَوْلِهِ: "وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا". الْفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ. قَالَ كَمَا تَقُولُ: أَبَطَرْتَ مَالَكَ وَبَطِرْتَهُ. وَنَظِيرُهُ عِنْدَهُ "إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" وَكَذَا عِنْدَهُ "فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً" وَنَصْبُ الْمَعَارِفِ عَلَى التَّفْسِيرِ مُحَالٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّفْسِيرِ وَالتَّمْيِيزِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا نَكِرَةً يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ بِ "بَطِرَتْ" وَمَعْنَى "بَطِرَتْ" جَهِلَتْ، فَالْمَعْنَى: جَهِلَتْ شُكْرَ مَعِيشَتَهَا. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) أَيْ لَمْ تُسْكَنْ بَعْدَ إِهْلَاكِ أَهْلِهَا إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَسَاكِنِ وَأَكْثَرُهَا خَرَابٌ. وَالِاسْتِثْنَاءُ يرجع الْمَسَاكِنِ أَيْ بَعْضُهَا يُسْكَنُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسَاكِنِ لَقَالَ إِلَّا قَلِيلٌ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: الْقَوْمُ لَمْ تَضْرِبْ إِلَّا قَلِيلٌ، تَرْفَعُ إِذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ قَلِيلًا، وَإِذَا نَصَبْتَ كَانَ الْقَلِيلُ صِفَةً لِلضَّرْبِ، أَيْ لَمْ تَضْرِبْ إِلَّا ضَرْبًا قَلِيلًا، فَالْمَعْنَى إِذًا: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُونَ وَمَنْ مَرَّ بِالطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أَيْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا سُكُونًا قَلِيلًا. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُ أَوْ مَارُّ الطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أَيْ لِمَا خلفوا بعد هلاكهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب