الباحث القرآني
فِيهِ ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ مِمَّا جَرَى لَهُ فِي مَسِيرِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النَّمْلِ مَا تَقَدَّمَ. وَالتَّفَقُّدُ تَطَلُّبُ مَا غَابَ عنك من شي. وَالطَّيْرُ اسْمٌ جَامِعٌ وَالْوَاحِدُ طَائِرٌ، وَالْمُرَادُ بِالطَّيْرِ هُنَا جِنْسُ الطَّيْرِ وَجَمَاعَتُهَا. وَكَانَتْ تَصْحَبُهُ فِي سَفَرِهِ وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى تَفَقُّدِهِ لِلطَّيْرِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْعِنَايَةُ بِأُمُورِ الْمُلْكِ، وَالتَّهَمُّمُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ لِأَنَّ الشَّمْسَ دَخَلَتْ مِنْ مَوْضِعِ الْهُدْهُدِ حِينَ غَابَ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَفَقُّدِ الطَّيْرِ، لِيَتَبَيَّنَ مِنْ أَيْنَ دَخَلَتِ الشَّمْسُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: إِنَّمَا طَلَبَ الْهُدْهُدَ لِأَنَّهُ احْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَاءِ عَلَى كَمْ هُوَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ كَانَ نَزَلَ فِي مَفَازَةٍ عَدِمَ فِيهَا الْمَاءَ، وَأَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَرَى بَاطِنَ الْأَرْضِ وَظَاهِرَهَا، فَكَانَ يُخْبِرُ سُلَيْمَانَ بِمَوْضِعِ الْمَاءِ، ثُمَّ كَانَتِ الْجِنُّ تُخْرِجُهُ فِي سَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، تَسْلَخُ عَنْهُ وَجْهَ الْأَرْضِ كَمَا تُسْلَخُ الشَّاةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سَلَامٍ. قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ. قَالَ: أَتَسْأَلُنِي وَأَنْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: لِمَ تَفَقَّدَ سُلَيْمَانُ الْهُدْهُدَ دُونَ سَائِرِ الطَّيْرِ؟ قَالَ: احْتَاجَ إِلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْ عُمْقَهُ- أَوْ قَالَ مَسَافَتَهُ- وَكَانَ الْهُدْهُدُ يَعْرِفُ ذَلِكَ دُونَ سَائِرِ الطَّيْرِ فَتَفَقَّدَهُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ النَّقَّاشِ: كَانَ الْهُدْهُدُ مُهَنْدِسًا. وَرُوِيَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَذْكُرُ شَأْنَ الْهُدْهُدِ فَقَالَ لَهُ: قِفْ يَا وَقَّافُ كَيْفَ يَرَى الْهُدْهُدُ بَاطِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ لَا يَرَى الْفَخَّ حِينَ يَقَعُ فِيهِ؟! فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَفَقَّدَ الْهُدْهُدَ مِنَ الطَّيْرِ؟ فَقَالَ: نَزَلَ مَنْزِلًا وَلَمْ يَدْرِ مَا بُعْدُ الْمَاءِ، وَكَانَ الْهُدْهُدُ مُهْتَدِيًا إِلَيْهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَقُلْتُ كَيْفَ يَهْتَدِي وَالصَّبِيُّ يَضَعُ لَهُ الْحِبَالَةَ فَيَصِيدُهُ؟ قَالَ: إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إِلَّا عَالِمُ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: هَذَا الْجَوَابُ قَدْ قَالَهُ الْهُدْهُدُ لِسُلَيْمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَنْشَدُوا:
إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ ... وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَرَأْيٍ وَنَظَرْ
وَحِيلَةٍ يَعْمَلُهَا فِي دَفْعِ مَا ... يَأْتِي بِهِ مَكْرُوهُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ
غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ ... وَسَلَّهُ مِنْ ذِهْنِهِ سَلَّ الشَّعَرْ
حَتَّى إِذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ ... رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي مَسِيرِهِ إِلَّا هُدْهُدٌ وَاحِدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَفَقُّدِ الْإِمَامِ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ. فَانْظُرْ إِلَى الْهُدْهُدِ مَعَ صِغَرِهِ كَيْفَ لَمْ يَخْف عَلَى سُلَيْمَانَ حَالُهُ، فَكَيْفَ بِعِظَامِ الْمُلْكِ. وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ، قَالَ: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ. فَمَا ظَنُّكَ بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ وَيَضِيعُ الرُّعْيَانُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ [[سرغ (بسكون الراء وفتحها): قرية بوادي تبوك من طريق الشام.]] لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ: أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ. الْحَدِيثَ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ هَذَا الْخُرُوجُ مِنْ عُمَرَ بَعْدَ مَا فُتِحَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ عَلَى مَا ذكره خليفة بن خياط.
كَانَ يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ وَأَحْوَالَ أُمَرَائِهِ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَبَيَّنَّا مَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ تَفَقُّدِ أَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ، وَمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَالسَّفَرِ إِلَى ذَلِكَ وَإِنْ طَالَ. وَرَحِمَ اللَّهُ ابْنَ الْمُبَارَكِ حَيْثُ يَقُولُ:
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا [[في بعض النسخ: "ورهبانا".]]
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ أَيْ مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ، فَهُوَ مِنَ الْقَلْبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. وَهُوَ كقولك: مالي أراك كئيبا. أي مالك. وَالْهُدْهُدُ طَيْرٌ مَعْرُوفٌ وَهَدْهَدَتُهُ صَوْتُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا مَقْصِدُ الْكَلَامِ الْهُدْهُدُ غَابَ لَكِنَّهُ أَخَذَ اللَّازِمَ عَنْ مَغِيبِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَرَاهُ، فَاسْتَفْهَمَ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ عَلَى اللَّازِمِ وَهَذَا ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ. وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: "مَا لِيَ" نَابَ مَنَابَ الْأَلِفِ الَّتِي تَحْتَاجُهَا أَمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: "مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ"، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ نَفْسِهِ، إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، وَسُخِّرَ لَهُ الْخَلْقُ، فَقَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الشُّكْرِ بِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِدَامَةِ الْعَدْلِ، فَلَمَّا فَقَدَ نِعْمَةَ الْهُدْهُدِ تَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي حَقِّ الشُّكْرِ، فَلِأَجْلِهِ سُلِبَهَا فَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: مَا لِيَ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا يَفْعَلُهُ شُيُوخُ الصوفية إذا فقدوا مالهم [[في أحكام القرآن لابن العربي: "إذا فقدوا آمالهم .... إلخ".]]، تَفَقَّدُوا أَعْمَالَهُمْ، هَذَا فِي الْآدَابِ، فَكَيْفَ بِنَا الْيَوْمَ وَنَحْنُ نُقَصِّرُ فِي الْفَرَائِضِ!. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ وَأَيُّوبُ: "مالي" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ فِي "يس" "وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي". وَأَسْكَنَهَا حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ الْمَدَنِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الَّتِي فِي "يس" وَإِسْكَانِ هَذِهِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: لِأَنَّ هَذِهِ الَّتِي فِي "النَّمْلِ" اسْتِفْهَامٌ، وَالْأُخْرَى انْتِفَاءٌ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْإِسْكَانَ "فَقالَ مَا لِيَ". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا كَانَ مُبْتَدَأً، وَبَيْنَ مَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا هِيَ يَاءُ النَّفْسِ، مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَفْتَحُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُهَا، فَقَرَءُوا بِاللُّغَتَيْنِ، وَاللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ فِي يَاءِ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ مَفْتُوحَةً، لِأَنَّهَا اسْمٌ وَهِيَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الِاخْتِيَارُ ألا تسكن فيجحف بالاسم. "أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ" بمعنى بل.
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ، أَمَا إِنَّهُ يُرْفَقُ بِالْمَحْدُودِ فِي الزَّمَانِ وَالصِّفَةِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ تَعْذِيبَهُ لِلطَّيْرِ كَانَ بِأَنْ يُنْتَفُ رِيشُهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: رِيشُهُ أَجْمَعُ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: جَنَاحَاهُ. فَعَلَ سُلَيْمَانُ هَذَا بِالْهُدْهُدِ إِغْلَاظًا عَلَى الْعَاصِينَ، وَعِقَابًا عَلَى إِخْلَالِهِ بِنَوْبَتِهِ وَرُتْبَتِهِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ، كَمَا أَبَاحَ ذَبْحَ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ لِلْأَكْلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي "نَوَادِرِ الْأُصُولِ" قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو الرَّبِيعِ الْإِيَادِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحُسَيْنِ الْجَعْفِيِّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: إِنَّمَا صَرَفَ اللَّهُ شَرَّ سُلَيْمَانَ عَنِ الْهُدْهُدِ لِأَنَّهُ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ. وَسَيَأْتِي. وَقِيلَ: تَعْذِيبُهُ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ أَضْدَادِهِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَضْيَقُ السُّجُونِ مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ وَقِيلَ: لَأُلْزِمَنَّهُ خِدْمَةَ أَقْرَانِهِ. وَقِيلَ: إِيدَاعُهُ الْقَفَصَ. وَقِيلَ: بِأَنْ يَجْعَلَهُ لِلشَّمْسِ بَعْدَ نَتْفِهِ. وَقِيلَ: بِتَبْعِيدِهِ عَنْ خِدْمَتِي، وَالْمُلُوكُ يُؤَدِّبُونَ بِالْهِجْرَانِ الْجَسَدَ بِتَفْرِيقِ إِلْفِهِ. وَهُوَ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ لَازِمَةٌ هِيَ أَوِ الْخَفِيفَةُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَوْ قُرِئَتْ "لَأَعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ" جَازَ.
(أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أَيْ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ. وَلَيْسَتِ اللَّامُ فِي "لَيَأْتِيَنِّي" لَامَ الْقَسَمِ لِأَنَّهُ لَا يُقْسِمُ سُلَيْمَانُ عَلَى فِعْلِ الْهُدْهُدِ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ فِي أَثَرِ قَوْلِهِ: "لَأُعَذِّبَنَّهُ" وَهُوَ مِمَّا جَازَ بِهِ الْقَسَمُ أَجْرَاهُ مَجْرَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ: "لَيَأْتِيَنَّنِي" بِنُونَيْنِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أَيِ الْهُدْهُدُ. وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَمِّ الْكَافِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحْدَهُ بِفَتْحِهَا. وَمَعْنَاهُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ أَقَامَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَكَثَ يَمْكُثُ مُكُوثًا كَمَا قَالُوا قَعَدَ يَقْعُدُ قُعُودًا. قَالَ: وَمَكَثَ مِثْلُ ظَرَفَ. قَالَ غَيْرُهُ: وَالْفَتْحُ أَحْسَنُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "ماكِثِينَ" إِذْ هُوَ مِنْ مَكَثَ، يُقَالُ: مَكَثَ يَمْكُثُ فَهُوَ مَاكِثٌ، وَمَكُثَ يَمْكُثُ مِثْلُ عَظُمَ يَعْظُمُ فَهُوَ مَكِيثٌ، مِثْلُ عَظِيمٍ. وَمَكُثَ يَمْكُثُ فَهُوَ مَاكِثٌ، مِثْلُ حَمُضَ يَحْمُضُ فَهُوَ حَامِضٌ. وَالضَّمِيرُ فِي "مَكَثَ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِسُلَيْمَانَ، وَالْمَعْنَى: بَقِيَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ التَّفَقُّدِ وَالْوَعِيدِ غَيْرَ طَوِيلٍ أَيْ غَيْرَ وَقْتٍ طَوِيلٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْهُدْهُدِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ. فَجَاءَ: "فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ" وَهِيَ: السَّادِسَةُ- أَيْ عَلِمْتُ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ مِنَ الْأَمْرِ فَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ "أَحَطُّ" يُدْغِمُ التَّاءَ فِي الطَّاءِ. وَحَكَى "أَحَتُّ" بِقَلْبِ الطَّاءِ تَاءً وَتُدْغَمُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ أَعْلَمَ سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَدَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَا تَوَعَّدَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالذَّبْحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ "سَبَإٍ" بِالصَّرْفِ. وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو "سَبَأَ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَرْكِ الصَّرْفِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ نُسِبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
الْوَارِدُونَ وَتَيْمُ فِي ذُرَى سَبَإٍ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ
وَأَنْكَرَ الزَّجَّاجُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ رَجُلٍ، وَقَالَ: "سَبَإٍ" اسْمُ مَدِينَةٍ تُعْرَفُ بِمَأْرِبَ بِالْيَمَنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةُ ثلاثة أيام. وَأَنْشَدَ لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
قَالَ: فَمَنْ لَمْ يَصْرِفْ قَالَ إِنَّهُ اسْمُ مَدِينَةٍ، وَمَنْ صَرَفَ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فَلِأَنَّهُ اسْمُ الْبَلَدِ فَيَكُونُ مُذَكَّرًا سُمِّيَ بِهِ مُذَكَّرٌ. وَقِيلَ: اسْمُ امْرَأَةٍ سُمِّيَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، كَذَلِكَ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَفِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الزَّجَّاجِ فَخَبَطَ عَشْوَاءَ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الرُّؤَاسِيَّ سَأَلَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنْ سَبَإٍ فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَتَأَوَّلَ الْفَرَّاءُ عَلَى أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الشَّيْءُ لَمْ يَنْصَرِفْ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبُو عَمْرٍو أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا، وَلَيْسَ فِي حِكَايَةِ الرُّؤَاسِيِّ عَنْهُ دَلِيلٌ أَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ لَا أَعْرِفُهُ، وَلَوْ سُئِلَ نَحْوِيٌّ عَنِ اسْمٍ فَقَالَ لَا أَعْرِفُهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الصَّرْفِ، بَلِ الْحَقُّ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَالْوَاجِبُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَنْ يَصْرِفَهُ، لِأَنَّ أَصْلَ الْأَسْمَاءِ الصَّرْفُ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ الشَّيْءُ مِنَ الصَّرْفِ لِعِلَّةٍ دَاخِلَةٍ عَلَيْهِ، فَالْأَصْلُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِمَا لَا يُعْرَفُ. وَذَكَرَ كَلَامًا كثيرا عَنِ النُّحَاةِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَالْقَوْلُ فِي "سَبَإٍ" مَا جَاءَ التَّوْقِيفُ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ رَجُلٍ، فَإِنْ صَرَفْتَهُ فَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ
اسْمًا لِلْحَيِّ، وَإِنْ لَمْ تَصْرِفْهُ جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ مِثْلَ ثَمُودَ إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ الصَّرْفُ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَاطِعَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ لَمَّا كَانَ يَقَعُ لَهُ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ كَانَ التَّذْكِيرُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْأَخَفُّ. الثَّامِنَةُ- وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَقُولُ لِلْكَبِيرِ وَالْمُتَعَلِّمَ لِلْعَالِمِ عِنْدِي مَا لَيْسَ عِنْدَكَ إِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَهُ. هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ جَلَالَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِلْمِهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالِاسْتِئْذَانِ. وَكَانَ عِلْمُ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَمَّارٍ وَغَيْرِهِ، وَغَابَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى قَالَا: لَا يَتَيَمَّمُ الْجُنُبُ. وَكَانَ حُكْمُ الْإِذْنِ فِي أَنْ تَنْفِرَ الْحَائِضُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَعْلَمْهُ عُمَرُ وَلَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَكَانَ غَسْلُ رَأْسِ الْمُحْرِمِ مَعْلُومًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَفِيَ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فَلَا يُطَوَّلُ بِهِ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾ لَمَّا قَالَ الْهُدْهُدُ: "وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ" قَالَ سُلَيْمَانُ: وَمَا ذَلِكَ الْخَبَرُ؟ قَالَ: "إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ" يَعْنِي بِلْقِيسَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ تَمْلِكُ أَهْلَ سَبَإٍ. وَيُقَالُ: كيف وخفى عَلَى سُلَيْمَانَ مَكَانُهَا وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ مَحَطِّهِ وَبَيْنَ بَلَدِهَا قَرِيبَةً، وَهِيَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ بَيْنَ صَنْعَاءَ وَمَأْرِبَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى ذَلِكَ عَنْهُ لِمَصْلَحَةٍ، كَمَا أَخْفَى عَلَى يَعْقُوبَ مَكَانَ يُوسُفَ. وَيُرْوَى أَنَّ أَحَدَ أَبَوَيْهَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ، وَيَقُولُونَ: الْجِنُّ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَلِدُونَ، كَذَبُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، ذَلِكَ صَحِيحٌ وَنِكَاحُهُمْ جَائِزٌ عَقْلًا فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ. قُلْتُ: خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ وَفْدٌ مِنَ الْجِنِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ انْهَ أُمَّتَكَ أَنْ يَسْتَنْجُوا بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ جُمْجُمَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَنَا فِيهَا رِزْقًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ: "لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ" وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ؟ فَقَالَ: "هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَلَّا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَةٍ إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا" وَهَذَا كُلُّهُ نَصٌّ فِي أَنَّهُمْ يَطْعَمُونَ. وَأَمَّا نِكَاحُهُمْ فَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي "سُبْحَانَ" [[راجع ج ١٠ ص ٢٨٩ طبعه أولى أو ثانية.]] عِنْدَ قَوْلِهِ: "وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ". وَرَوَى وُهَيْبُ بْنُ جرير ابن حَازِمٍ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ بِلْقِيسَ مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا بَلْعَمَةُ بِنْتُ شَيْصَانَ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْعَاشِرَةُ- رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً" قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَعَلَّهُ نُقِلَ عَنْهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا إِنَّمَا تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ وَلَيْسَ بِأَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا بِأَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَسْطُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةً مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُ ذَلِكَ التَّحْكِيمُ وَالِاسْتِنَابَةُ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَدَّمَ امْرَأَةً عَلَى حِسْبَةِ السُّوقِ. وَلَمْ يَصِحَّ فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِيُّ مَعَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ طَرَارٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَحْكُمَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْأَحْكَامِ تَنْفِيذُ الْقَاضِي لَهَا، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِيهَا، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ مِنَ الْمَرْأَةِ كَإِمْكَانِهِ مِنَ الرَّجُلِ. فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَنَقَضَ كَلَامَهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ حِفْظُ الثُّغُورِ، وَتَدْبِيرُ الْأُمُورِ وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ، وَقَبْضُ الْخَرَاجِ وَرَدُّهُ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مِنَ الْمَرْأَةِ كَتَأَتِّيهِ مِنَ الرَّجُلِ. قال ابن العربي: وليس كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا أَنْ تَبْرُزَ إِلَى الْمَجْلِسِ، وَلَا تُخَالِطَ الرِّجَالَ، وَلَا تُفَاوِضَهُمْ مُفَاوَضَةَ النَّظِيرِ لِلنَّظِيرِ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فَتَاةً حَرُمَ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَكَلَامُهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً [[البرزة هنا: الكهلة التي لا تحتجب احتجاب الشواب، وهى مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم.]] لَمْ يَجْمَعْهَا وَالرِّجَالَ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ تَزْدَحِمُ فِيهِ مَعَهُمْ، وَتَكُونُ مُنَاظِرَةً لَهُمْ، وَلَنْ يُفْلِحَ قَطُّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا وَلَا مَنِ اعْتَقَدَهُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ مُبَالَغَةٌ، أَيْ مِمَّا تَحْتَاجُهُ الْمَمْلَكَةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أُوتِيَتْ من كل شي فِي زَمَانِهَا شَيْئًا فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ دَلَّ عَلَيْهِ.
(وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أَيْ سَرِيرٌ، وَوَصَفَهُ بِالْعِظَمِ فِي الْهَيْئَةِ وَرُتْبَةِ السُّلْطَانِ. قِيلَ: كَانَ مِنْ ذَهَبٍ تَجْلِسُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الْعَرْشُ هُنَا الْمُلْكُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها". الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ سَوَّى الْهُدْهُدُ بَيْنَ عَرْشِ بِلْقِيسَ وَعَرْشِ اللَّهِ فِي الْوَصْفِ بِالْعَظِيمِ؟ قُلْتُ: بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بَوْنٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّ وَصْفَ عَرْشِهَا بِالْعَظِيمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إلى عرش أَبْنَاءِ جِنْسِهَا مِنَ الْمُلُوكِ، وَوَصْفُ عَرْشِ اللَّهِ بِالْعَظِيمِ تَعْظِيمٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا خَلَقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ طُولُ عَرْشِهَا ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَارْتِفَاعُهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، مُكَلَّلٌ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، وَالزَّبَرْجَدِ الْأَخْضَرِ. قَتَادَةُ: وَقَوَائِمُهُ لُؤْلُؤٌ وَجَوْهَرٌ، وَكَانَ مُسَتَّرًا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، عَلَيْهِ سَبْعَةُ مَغَالِيقَ. مُقَاتِلٌ: كَانَ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا [فِي ثَمَانِينَ ذِرَاعًا] [[من ب وك.]] وَارْتِفَاعُهُ مِنَ الْأَرْضِ ثَمَانُونَ ذِرَاعًا، وَهُوَ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ. ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ يَخْدُمُهَا النِّسَاءُ، وكان لِخِدْمَتِهَا سِتُّمِائَةُ امْرَأَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهَا امْرَأَةٌ مُلِّكَتْ عَلَى مَدَائِنِ الْيَمَنِ، ذَاتُ مُلْكٍ عَظِيمٍ، وَسَرِيرٍ عَظِيمٍ، وَكَانَتْ كَافِرَةً مِنْ قَوْمٍ كُفَّارٍ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِمَّنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا زَنَادِقَةً فِيمَا يُرْوَى. وَقِيلَ: كَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الْأَنْوَارَ. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أن الوقف على "عَرْشٌ". قال المهدوي: فعظيم عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ عَظِيمٌ أَنْ وَجَدْتَهَا، أَيْ وَجُودِي إِيَّاهَا كَافِرَةً. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: "وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ" "وَقْفٌ حَسَنٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ عَلَى" عَرْشٌ "وَيَبْتَدِئَ" عَظِيمٌ وَجَدْتُها "إِلَّا عَلَى مَنْ فَتَحَ، لِأَنَّ عَظِيمًا نَعْتٌ لعرش فلو كان متعلقا بوجدتها لَقُلْتَ عَظِيمَةً وَجَدْتُّهَا، وَهَذَا مُحَالٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَقَدْ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَهْرَيَارَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ قَالَ: الْوَقْفُ عَلَى" عَرْشٌ "وَالِابْتِدَاءُ" عَظِيمٌ "عَلَى مَعْنَى عَظِيمٌ عِبَادَتُهُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَذْهَبَ، وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ عَرْشَهَا أَحْقَرُ وَأَدَقُّ شَأْنًا مِنْ أَنْ يَصِفَهُ اللَّهُ بِالْعَظِيمِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالِاخْتِيَارُ عِنْدِي مَا ذَكَرْتُهُ أَوَّلًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إِضْمَارِ عِبَادَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ دَلِيلٌ. وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَصِفَ الْهُدْهُدَ عَرْشَهَا بِالْعَظِيمِ إِذَا رَآهُ مُتَنَاهِيَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَجَرْيُهُ عَلَى إِعْرَابِ" عَرْشٌ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُهُ.
(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أَيْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ. "(فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) " أَيْ عَنْ طَرِيقِ التَّوْحِيدِ. وَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِسَبِيلِ التَّوْحِيدِ فَلَيْسَ بِسَبِيلٍ يُنْتَفَعُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ.
(فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) إِلَى اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ "أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ" بِتَشْدِيدِ "أَلَّا" قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: "فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ" غَيْرُ تَامٍّ لِمَنْ شَدَّدَ "أَلَّا" لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَلَّا يَسْجُدُوا. قَالَ النَّحَّاسُ: هِيَ "أَنْ" دَخَلَتْ عَلَيْهَا "لَا" وَ "أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، قَالَ الْأَخْفَشُ: بِ "زَيَّنَ" أَيْ وَزَيَّنَ لَهُمْ لِئَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: بِ "فَصَدَّهُمْ" أَيْ فَصَدَّهُمْ أَلَّا يَسْجُدُوا. وَهُوَ فِي الْوَجْهَيْنِ مَفْعُولٌ لَهُ. وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: "أَنْ" بَدَلٌ مِنْ "أَعْمالَهُمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ أبو عمرو: و "أن" في موضع حفض عَلَى الْبَدَلِ مِنَ السَّبِيلِ وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهَا "لَا يَهْتَدُونَ" أَيْ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ "لَا" زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ: "مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ" أَيْ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ. وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَلَيْسَ بِمَوْضِعِ سَجْدَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْهُمْ بِتَرْكِ السُّجُودِ، إِمَّا بِالتَّزْيِينِ، أَوْ بِالصَّدِّ، أَوْ بِمَنْعِ الِاهْتِدَاءِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَالْكِسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا:" أَلَا يَسْجُدُوا [[الألوسي: "ألا" بالتخفيف على أنها للاستفتاح و "يا" حرف نداء، والمنادى محذوف، أي ألا يا قوم اسجدوا وسقطت ألف يا وألف الوصل في "اسجدوا" وكتبت الياء متصلة بالسين على خلاف القياس.]] لِلَّهِ "بِمَعْنَى أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا، لِأَنَّ" يَا" يُنَادَى بِهَا الْأَسْمَاءُ دُونَ الْأَفْعَالِ. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
يَا لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمْ ... وَالصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جَارِ
قَالَ سِيبَوَيْهِ: "يَا" لِغَيْرِ اللَّعْنَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلَّعْنَةِ لَنَصَبَهَا، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ مُنَادًى مُضَافًا، وَلَكِنَّ تَقْدِيرَهُ يَا هَؤُلَاءِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ عَلَى سَمْعَانَ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ سَمَاعًا عَنِ الْعَرَبِ: أَلَا يَا ارْحَمُوا أَلَا يَا اصْدُقُوا. يُرِيدُونَ أَلَا يَا قَوْمٌ ارْحَمُوا اصْدُقُوا، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ "اسْجُدُوا" فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالْأَمْرِ وَالْوَقْفِ عَلَى "أَلَا يَا" ثُمَّ تَبْتَدِئُ فَتَقُولُ: "اسْجُدُوا". قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا كُنْتُ أَسْمَعُ الْأَشْيَاخَ يَقْرَءُونَهَا إِلَّا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى نِيَّةِ الْأَمْرِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَلَا هَلْ تَسْجُدُونَ لِلَّهِ" بِالتَّاءِ وَالنُّونِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ "أَلَا تَسْجُدُونَ لِلَّهِ" فَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ حُجَّةٌ لِمَنْ خَفَّفَ. الزَّجَّاجُ: وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَقْتَضِي وُجُوبَ السُّجُودِ دُونَ التَّشْدِيدِ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ التَّشْدِيدِ. وَقَالَ: التَّخْفِيفُ وَجْهٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعَ الْخَبَرِ مِنْ أَمْرِ سَبَأٍ، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدُ إِلَى ذِكْرِهِمْ، وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ خَبَرٌ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا انْقِطَاعَ فِي وَسَطِهِ. وَنَحْوَهُ قَالَ النَّحَّاسُ. قَالَ: قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ بَعِيدَةٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَكُونُ مُعْتَرَضًا، وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ يَكُونُ الْكَلَامُ بِهَا مُتَّسِقًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّوَادَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ أَلِفَانِ، وَإِنَّمَا يُخْتَصَرُ مِثْلُ هَذَا بِحَذْفِ أَلِفٍ وَاحِدَةٍ نَحْوَ يَا عيسى بن مَرْيَمَ. ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَسَقَطَتْ أَلِفُ "اسْجُدُوا" كَمَا تَسْقُطُ مَعَ هَؤُلَاءِ إِذَا ظَهَرَ، وَلَمَّا سَقَطَتْ أَلِفُ "يَا" وَاتَّصَلَتْ بِهَا أَلِفُ "اسْجُدُوا" سَقَطَتْ، فَعُدَّ سُقُوطُهَا دَلَالَةً عَلَى الِاخْتِصَارِ وَإِيثَارًا لِمَا يَخِفُّ وَتَقِلُّ أَلْفَاظُهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ "يَا" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّنْبِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَلَا اسْجُدُوا لِلَّهِ، فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ "يَا" لِلتَّنْبِيهِ سقطت الالف التي في "اسجدوا" لأنها أَلِفُ وَصْلٍ، وَذَهَبَتِ الْأَلِفُ الَّتِي فِي "يَا" لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، لِأَنَّهَا وَالسِّينَ سَاكِنَتَانِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَى ... وَلَا زَالَ مُنْهَلًا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ مِنَ الْهُدْهُدِ أَوْ سُلَيْمَانَ أَوْ مِنَ اللَّهِ أَيْ أَلَا لِيَسْجُدُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ" قِيلَ: إِنَّهُ أَمْرٌ أَيْ لِيَغْفِرُوا. وَتَنْتَظِمُ عَلَى هَذَا كِتَابَةُ المصحف، أي ليس ها هنا نِدَاءٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ إِلَى قَوْلِهِ "الْعَظِيمِ" وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَيُعْتَرَضُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْنَى شَرْعٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ لَمَّا أَخْبَرَهُ الْهُدْهُدُ عَنِ الْقَوْمِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ [قَوْلِ] اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَهُوَ الثَّابِتُ مَعَ التَّأَمُّلِ، وَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ فِي "أَلَّا" تُعْطِيَ أَنَّ الْكَلَامَ لِلْهُدْهُدِ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَمْنَعُهُ، وَالتَّخْفِيفُ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ أَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةٌ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا أَمْ فِي إِحْدَاهُمَا؟ قُلْتُ هِيَ وَاجِبَةٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ مَوَاضِعَ السَّجْدَةِ إِمَّا أَمْرٌ بِهَا، أَوْ مَدْحٌ لِمَنْ أَتَى بِهَا، أَوْ ذَمٌّ [لِمَنْ [[الزيادة من "الكشاف".]]] تَرَكَهَا، وَإِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَالْأُخْرَى ذَمٌّ لِلتَّارِكِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عن الكفار بأنهم يَسْجُدُونَ كَمَا فِي "الِانْشِقَاقِ" وَسَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ. "النَّمْلُ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ مِنْ وُجُوبِ السَّجْدَةِ مَعَ التَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ فَغَيْرُ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ.
(الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) خَبْءُ السَّمَاءِ قَطْرُهَا، وَخَبْءُ الْأَرْضِ كُنُوزُهَا وَنَبَاتُهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَبْءُ السِّرُّ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَى أَيْ مَا غَابَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عليه "ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ" [[في نسخ الأصل بالباء، وهى قراءة العامة كما سيأتي.]]. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: "الْخَبُ" بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهُوَ التَّخْفِيفُ الْقِيَاسِيُّ، وَذَكَرَ مَنْ يَتْرُكُ الْهَمْزَ فِي الوقف. وقال النحاس: وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَرَأَ: "الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَا" بِأَلِفٍ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَاعْتَلَّ بِأَنَّهُ إِنْ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ أَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الْبَاءِ فَقَالَ "الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" وَأَنَّهُ إِنْ حَوَّلَ الْهَمْزَةَ قَالَ: الْخَبْيُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: كَانَ أَبُو حَاتِمٍ دُونَ أَصْحَابِهِ فِي النَّحْوِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ لَمْ يَلْقَ أَعْلَمَ مِنْهُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُبْدَلُ مِنَ الْهَمْزَةِ أَلِفًا إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ وَكَانَتْ مَفْتُوحَةً، وَتُبْدِلُ مِنْهَا وَاوًا إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ وَكَانَتْ مَضْمُومَةً، وَتُبْدِلُ مِنْهَا يَاءً إِذَا كَانَ قَبْلَهَا سَاكِنٌ وَكَانَتْ مَكْسُورَةً، فَتَقُولُ: هَذَا الْوَثْوُ وَعَجِبْتُ مِنَ الْوَثْيِ وَرَأَيْتُ الْوَثَا، وَهَذَا مِنْ وُثِئَتْ يَدُهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْخَبْوُ وَعَجِبْتُ مِنَ الْخَبْيِ، وَرَأَيْتُ الْخَبَا، وَإِنَّمَا فُعِلَ هَذَا لِأَنَّ الْهَمْزَةَ خَفِيفَةٌ فَأُبْدِلَ مِنْهَا هَذِهِ الْحُرُوفُ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي أَسَدٍ أنهم يقولون: هذا الخبو، يَضُمُّونَ السَّاكِنَ إِذَا كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَضْمُومَةً، وَيُثْبِتُونَ الْهَمْزَةَ وَيَكْسِرُونَ السَّاكِنَ إِذَا كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَكْسُورَةً، وَيَفْتَحُونَ السَّاكِنَ إِذَا كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَفْتُوحَةً. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَكْسِرُونَ وَإِنْ كَانَتِ الْهَمْزَةُ مَضْمُومَةً، إِلَّا أَنَّ هَذَا عَنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَيَقُولُونَ: الرَّدِيءُ [[الرده بمعنى الصاحب.]]، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَضُمُّوا الدَّالَّ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ضَمَّةً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعُلٌ. وَهَذِهِ كُلُّهَا لُغَاتٌ دَاخِلَةٌ عَلَى اللُّغَةِ الَّتِي قَرَأَ بِهَا الْجَمَاعَةُ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ "الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَا مِنَ السَّمَاوَاتِ" وَ "مِنْ" وَ "فِي" يَتَعَاقَبَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَأَسْتَخْرِجَنَّ الْعِلْمَ فِيكُمْ يُرِيدُ مِنْكُمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
(وَيَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) قِرَاءَةُ العامة فيهما بياء، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُعْطِي أَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِتَوْحِيدِهِ وَوُجُوبِ السُّجُودِ لَهُ، وَإِنْكَارِ سُجُودِهِمْ لِلشَّمْسِ، وَإِضَافَتِهِ لِلشَّيْطَانِ، وَتَزْيِينِهِ لَهُمْ، مَا خَصَّ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الطُّيُورِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، مِنَ الْمَعَارِفِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ الْعُقُولُ الرَّاجِحَةُ تَهْتَدِي لَهَا. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَحَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ "تُخْفُونَ" وَ "تُعْلِنُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وهذه القراءة تعطى أن الآية مِنْ خِطَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
(اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ "الْعَظِيمِ" رَفْعًا نَعْتًا لِلَّهِ. الْبَاقُونَ بِالْخَفْضِ نَعْتًا لِلْعَرْشِ. وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا عَدَاهُ فِي ضِمْنِهِ وَقَبْضَتِهِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سَنَنْظُرُ﴾ مِنَ النَّظَرِ الَّذِي هُوَ التَّأَمُّلُ وَالتَّصَفُّحُ.
(أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فِي مَقَالَتِكَ. وَ "كُنْتَ" بِمَعْنَى أَنْتَ. وَقَالَ: "سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ" وَلَمْ يَقُلْ سَنَنْظُرُ فِي أَمْرِكَ، لِأَنَّ الْهُدْهُدَ لَمَّا صَرَّحَ بِفَخْرِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: "أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ" صَرَّحَ لَهُ سُلَيْمَانُ بِقَوْلِهِ: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كَذَبْتَ، فَكَانَ ذَلِكَ [كِفَاءً [[في الأصول "جفاء" والتصويب من "أحكام القرآن" لابن العربي.]]] لِمَا قَالَهُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- في قوله: "أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يُعَاقِبِ الْهُدْهُدَ حِينَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا صَارَ صِدْقُ الْهُدْهُدِ عُذْرًا لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَقْتَضِي الْجِهَادَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْجِهَادُ. وَفِي الصَّحِيحِ: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ". وَقَدْ قَبِلَ عُمَرُ عُذْرَ النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيٍّ وَلَمْ يُعَاقِبْهُ. وَلَكِنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْتَحِنَ ذَلِكَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. كَمَا فَعَلَ سُلَيْمَانُ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ الْهُدْهُدَ: "إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ" لَمْ يَسْتَفِزُّهُ الطَّمَعُ، وَلَا اسْتَجَرَّهُ حُبُّ الزِّيَادَةِ فِي الْمُلْكِ إِلَى أَنْ يَعْرِضَ لَهُ حَتَّى قَالَ: "وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" فَغَاظَهُ حِينَئِذٍ مَا سَمِعَ، وَطَلَبَ الِانْتِهَاءَ إِلَى مَا أُخْبِرَ، وَتَحْصِيلَ عِلْمِ مَا غَابَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ" وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا رَوَاهُ الصَّحِيحُ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، حِينَ اسْتَشَارَ عُمَرُ النَّاسَ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينَهَا، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: ايتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، قَالَ: فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: لَا تبرح حتى تأتى بالمخرج مِنْ ذَلِكَ، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ. وَنَحْوَهُ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ وَغَيْرِهِ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ "فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي اللَّفْظِ. وَبِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِثْبَاتِ الْكَسْرَةِ دَالَّةً عَلَيْهَا "فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ". وَبِضَمِّ الْهَاءِ وَإِثْبَاتِ الْوَاوِ على الأصل "فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ". وَبِحَذْفِ الْوَاوِ وَإِثْبَاتِ الضَّمَّةِ "فَأَلْقِهُ إِلَيْهِمْ". وَاللُّغَةُ الْخَامِسَةُ قَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ بِإِسْكَانِ الْهَاءِ "فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ". قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى حِيلَةٍ بَعِيدَةٍ تَكُونُ: يُقَدَّرُ الْوَقْفُ، وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ: لَا تَلْتَفِتْ إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِلَ وَهُوَ يَنْوِي الْوَقْفَ لَجَازَ أَنْ يُحْذَفَ الْإِعْرَابُ مِنَ الْأَسْمَاءِ. وَقَالَ: "إِلَيْهِمْ" عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ قَالَ: "وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ" فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَأَلْقِهْ إِلَى الَّذِينَ هَذَا دِينُهُمْ، اهْتِمَامًا مِنْهُ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَاشْتِغَالًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَبُنِيَ الْخِطَابُ فِي الْكِتَابِ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ لِذَلِكَ. وَرُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْهُدْهُدَ وَصَلَ فَأَلْفَى دُونَ هَذِهِ الْمَلِكَةِ حُجُبَ جُدْرَانٍ، فَعَمَدَ إِلَى كُوَّةٍ كَانَتْ بِلْقِيسُ صَنَعَتْهَا لِتَدْخُلَ مِنْهَا الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا لِمَعْنَى عِبَادَتِهَا إِيَّاهَا، فَدَخَلَ مِنْهَا وَرَمَى الْكِتَابَ عَلَى بِلْقِيسَ وَهِيَ- فِيمَا يُرْوَى- نَائِمَةٌ، فَلَمَّا انْتَبَهَتْ وَجَدَتْهُ فَرَاعَهَا، وَظَنَّتْ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ، ثُمَّ قَامَتْ فَوَجَدَتْ حَالَهَا كَمَا عَهِدَتْ، فَنَظَرَتْ إِلَى الْكُوَّةِ تَهَمُّمًا بِأَمْرِ الشَّمْسِ، فَرَأَتِ الْهُدْهُدَ فَعَلِمَتْ. وَقَالَ وَهْبٌ وَابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ لَهَا كُوَّةٌ مُسْتَقْبِلَةً مَطْلِعَ الشَّمْسِ، فَإِذَا طَلَعَتْ سَجَدَتْ، فَسَدَّهَا الْهُدْهُدُ بِجَنَاحِهِ، فَارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ تَعْلَمْ، فَلَمَّا اسْتَبْطَأَتِ الشَّمْسَ قَامَتْ تَنْظُرُ فَرَمَى الصَّحِيفَةَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَاتَمَ ارْتَعَدَتْ وَخَضَعَتْ، لِأَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي خَاتَمِهِ، فَقَرَأَتْهُ فَجَمَعَتِ الْمَلَأَ مِنْ قَوْمِهَا فَخَاطَبَتْهُمْ بِمَا يَأْتِي بَعْدُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَمَلَ الْهُدْهُدُ الْكِتَابَ بِمِنْقَارِهِ، وَطَارَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ وَحَوْلَهَا الْجُنُودُ وَالْعَسَاكِرُ، فَرَفْرَفَ سَاعَةً وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَرَفَعَتِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا فَأَلْقَى الْكِتَابَ فِي حِجْرِهَا.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِرْسَالِ الْكُتُبِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ، وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي "آلِ عِمْرَانَ" [[راجع ج ٤ ص ١٠٥ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.]]: الثَّامِنَةَ عشرة- (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أَمْرُهُ بِالتَّوَلِّي حُسْنُ أَدَبٍ لِيَتَنَحَّى حَسْبَ مَا يُتَأَدَّبُ بِهِ مَعَ الْمُلُوكِ. بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم، قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَهُ بِالتَّوَلِّي بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، أَيْ أَلْقِهِ وَارْجِعْ. قال وقوله: "فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ" فِي مَعْنَى التَّقْدِيمِ عَلَى قَوْلِهِ: "ثُمَّ تَوَلَّ" وَاتِّسَاقُ رُتْبَةِ الْكَلَامِ أَظْهَرُ، أَيْ أَلْقِهِ ثُمَّ تَوَلَّ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ فانظر أي انتظر. وقيل: فاعلم، كقوله:"وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ
"أَيِ اعْلَمْ مَاذَا يَرْجِعُونَ أَيْ يُجِيبُونَ وَمَاذَا يَرُدُّونَ مِنَ الْقَوْلِ. وَقِيلَ:" فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ" يَتَرَاجَعُونَ بَيْنَهُمْ من الكلام.
{"ayahs_start":20,"ayahs":["وَتَفَقَّدَ ٱلطَّیۡرَ فَقَالَ مَا لِیَ لَاۤ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَاۤىِٕبِینَ","لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابࣰا شَدِیدًا أَوۡ لَأَا۟ذۡبَحَنَّهُۥۤ أَوۡ لَیَأۡتِیَنِّی بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ","فَمَكَثَ غَیۡرَ بَعِیدࣲ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۭ بِنَبَإࣲ یَقِینٍ","إِنِّی وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةࣰ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِیَتۡ مِن كُلِّ شَیۡءࣲ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِیمࣱ","وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا یَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِیلِ فَهُمۡ لَا یَهۡتَدُونَ","أَلَّا یَسۡجُدُوا۟ لِلَّهِ ٱلَّذِی یُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَیَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ","ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِیمِ ۩","۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ","ٱذۡهَب بِّكِتَـٰبِی هَـٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَیۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا یَرۡجِعُونَ"],"ayah":"لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابࣰا شَدِیدًا أَوۡ لَأَا۟ذۡبَحَنَّهُۥۤ أَوۡ لَیَأۡتِیَنِّی بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق