قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ لَمَّا غَلَبَ مُوسَى فِرْعَوْنَ بِالْحُجَّةِ وَلَمْ يَجِدِ اللَّعِينُ مِنْ تَقْرِيرِهِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حُجَّةً رَجَعَ إِلَى مُعَارَضَةِ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاسْتَفْهَمَهُ اسْتِفْهَامًا عَنْ مَجْهُولٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ. قَالَ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ: كَمَا يُسْتَفْهَمُ عَنِ الْأَجْنَاسِ فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ بِ "مَا". قَالَ مَكِّيٌّ: وَقَدْ وَرَدَ لَهُ اسْتِفْهَامٌ بِ "مَنْ" فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَيُشْبِهُ أَنَّهَا مَوَاطِنُ، فَأَتَى مُوسَى بِالصِّفَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا مَخْلُوقٌ، وَقَدْ سَأَلَ فِرْعَوْنُ عَنِ الْجِنْسِ وَلَا جِنْسَ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْأَجْنَاسَ مُحْدَثَةٌ، فَعَلِمَ مُوسَى جَهْلَهُ فَأَضْرَبَ عَنْ سُؤَالِهِ وَأَعْلَمَهُ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ الَّتِي تُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ أَنَّهُ لَا مُشَارَكَةَ لِفِرْعَوْنَ فِيهَا. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: (أَلا تَسْتَمِعُونَ) عَلَى مَعْنَى الْإِغْرَاءِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ سَفَهِ الْمَقَالَةِ إِذْ كَانَتْ عَقِيدَةُ الْقَوْمِ أَنَّ فِرْعَوْنَ رَبُّهُمْ وَمَعْبُودُهُمْ وَالْفَرَاعِنَةُ قَبْلَهُ كَذَلِكَ. فَزَادَ مُوسَى فِي الْبَيَانِ بِقَوْلِهِ: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فَجَاءَ بِدَلِيلٍ يَفْهَمُونَهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ آبَاءٌ وَأَنَّهُمْ قَدْ فَنُوا وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُغَيِّرٍ، وَأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا، وَأَنَّهُمْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مُكَوِّنٍ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ حِينَئِذٍ عَلَى جِهَةِ الاستخفاف: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أَيْ لَيْسَ يُجِيبُنِي عَمَّا أَسْأَلُ، فَأَجَابَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أَيْ لَيْسَ مُلْكُهُ كَمُلْكِكَ، لِأَنَّكَ إِنَّمَا تملك بلد وَاحِدًا لَا يَجُوزُ أَمْرُكَ فِي غَيْرِهِ، وَيَمُوتُ مَنْ لَا تُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ، وَالَّذِي أَرْسَلَنِي يَمْلِكُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ (وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). وَقِيلَ: عَلِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ قَصْدَهُ فِي السُّؤَالِ مَعْرِفَةُ مَنْ سَأَلَ عَنْهُ، فَأَجَابَ بِمَا هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّبِّ الْيَوْمَ. ثُمَّ لَمَّا انْقَطَعَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي بَابِ الْحُجَّةِ رَجَعَ إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّغَلُّبِ فَتَوَعَّدَ مُوسَى بِالسَّجْنِ، وَلَمْ يَقُلْ مَا دَلِيلُكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ أَرْسَلَكَ، لِأَنَّ فِيهِ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّ ثَمَّ إِلَهًا غَيْرُهُ. وَفِي تَوَعُّدِهِ بِالسَّجْنِ ضَعْفٌ. وَكَانَ فِيمَا يُرْوَى أَنَّهُ يَفْزَعُ مِنْهُ فَزَعًا شَدِيدًا حَتَّى كَانَ اللَّعِينُ لَا يُمْسِكُ بَوْلَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ سِجْنَهُ كَانَ أَشَدَّ مِنَ الْقَتْلِ وَكَانَ إِذَا سَجَنَ أَحَدًا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ سَجْنِهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَكَانَ مَخُوفًا. ثُمَّ لَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يَرُعْهُ تَوَعَّدَ فِرْعَوْنَ (قالَ) لَهُ عَلَى جهة اللطف به والطمع في إيمانه: (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) فَيَتَّضِحُ لَكَ بِهِ صِدْقِي، فَلَمَّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ طَمِعَ فِي أَنْ يَجِدَ أَثْنَاءَهُ موضع معارضة (فقال) لَهُ (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). وَلَمْ يَحْتَجِ الشَّرْطُ إِلَى جَوَابٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يَكْفِي مِنْهُ.
(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ) مِنْ يَدِهِ فَكَانَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ مِنْ قِصَّتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَشَرْحُهُ فِي "الْأَعْرَافِ" [[راجع ج ٧ ص ٢٥٦ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.]] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَقَالَ السَّحَرَةُ لما توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل (لَا ضَيْرَ) أَيْ لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيمَا يَلْحَقُنَا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، أَيْ إِنَّمَا عَذَابُكَ سَاعَةً فَنَصْبِرُ لَهَا وَقَدْ لَقِينَا اللَّهَ مُؤْمِنِينَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اسْتِبْصَارِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ. قَالَ مَالِكٌ: دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِرْعَوْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ السَّحَرَةَ آمَنُوا بِهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. يُقَالُ: لَا ضَيْرَ وَلَا ضَوْرَ وَلَا ضَرَّ وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضارورة بمعنى واحد، قال الْهَرَوِيُّ. وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ [[البيت لخداش بن زهير، واستشهد به سيبويه في كتابه على جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة ضرورة. والمعنى: لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من انتسبت إليه من شريف أو وضيع، وضرب المثل بالظبي أو الحمار.]]:
فَإِنَّكَ لَا يَضُورُكَ بَعْدَ حَوْلٍ ... أَظَبْيٌ كَانَ أُمَّكَ أَمْ حِمَارُ
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ضَارَهُ يَضُورُهُ وَيَضِيرُهُ ضَيْرًا وَضَوْرًا أَيْ ضَرَّهُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لَا يَنْفَعُنِي ذَلِكَ وَلَا يَضُورُنِي. وَالتَّضَوُّرُ الصِّيَاحُ وَالتَّلَوِّي عِنْدَ الضَّرْبِ أَوِ الْجُوعِ. وَالضُّورَةُ بِالضَّمِّ الرَّجُلُ الْحَقِيرُ الصَّغِيرُ الشَّأْنِ.
(إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) يُرِيدُ نَنْقَلِبُ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ رَحِيمٍ (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ). "أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ لِأَنْ كُنَّا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ كَسْرَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مُجَازَاةً. وَمَعْنَى "أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ" أَيْ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ مِمَّنْ كَانَ فِي جَانِبِ فِرْعَوْنَ. الْفَرَّاءُ: أَوَّلُ مُؤْمِنِي زَمَانِنَا. وَأَنْكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ آمَنَ مَعَهُ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَهُمُ الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ فِرْعَوْنُ: "إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ" رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ.
{"ayahs_start":23,"ayahs":["قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِینَ","قَالَ لِمَنۡ حَوۡلَهُۥۤ أَلَا تَسۡتَمِعُونَ","قَالَ رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَاۤىِٕكُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ","قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِیۤ أُرۡسِلَ إِلَیۡكُمۡ لَمَجۡنُونࣱ","قَالَ رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ","قَالَ لَىِٕنِ ٱتَّخَذۡتَ إِلَـٰهًا غَیۡرِی لَأَجۡعَلَنَّكَ مِنَ ٱلۡمَسۡجُونِینَ","قَالَ أَوَلَوۡ جِئۡتُكَ بِشَیۡءࣲ مُّبِینࣲ","قَالَ فَأۡتِ بِهِۦۤ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِینَ","فَأَلۡقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ ثُعۡبَانࣱ مُّبِینࣱ","وَنَزَعَ یَدَهُۥ فَإِذَا هِیَ بَیۡضَاۤءُ لِلنَّـٰظِرِینَ","قَالَ لِلۡمَلَإِ حَوۡلَهُۥۤ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ عَلِیمࣱ","یُرِیدُ أَن یُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِۦ فَمَاذَا تَأۡمُرُونَ","قَالُوۤا۟ أَرۡجِهۡ وَأَخَاهُ وَٱبۡعَثۡ فِی ٱلۡمَدَاۤىِٕنِ حَـٰشِرِینَ","یَأۡتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِیمࣲ","فَجُمِعَ ٱلسَّحَرَةُ لِمِیقَـٰتِ یَوۡمࣲ مَّعۡلُومࣲ","وَقِیلَ لِلنَّاسِ هَلۡ أَنتُم مُّجۡتَمِعُونَ","لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ٱلسَّحَرَةَ إِن كَانُوا۟ هُمُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ","فَلَمَّا جَاۤءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالُوا۟ لِفِرۡعَوۡنَ أَىِٕنَّ لَنَا لَأَجۡرًا إِن كُنَّا نَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبِینَ","قَالَ نَعَمۡ وَإِنَّكُمۡ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلۡمُقَرَّبِینَ","قَالَ لَهُم مُّوسَىٰۤ أَلۡقُوا۟ مَاۤ أَنتُم مُّلۡقُونَ","فَأَلۡقَوۡا۟ حِبَالَهُمۡ وَعِصِیَّهُمۡ وَقَالُوا۟ بِعِزَّةِ فِرۡعَوۡنَ إِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ","فَأَلۡقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ","فَأُلۡقِیَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِینَ","قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","رَبِّ مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ","قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِیرُكُمُ ٱلَّذِی عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَ فَلَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَۚ لَأُقَطِّعَنَّ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَـٰفࣲ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِینَ","قَالُوا۟ لَا ضَیۡرَۖ إِنَّاۤ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ","إِنَّا نَطۡمَعُ أَن یَغۡفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـٰیَـٰنَاۤ أَن كُنَّاۤ أَوَّلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"],"ayah":"قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِیۤ أُرۡسِلَ إِلَیۡكُمۡ لَمَجۡنُونࣱ"}