الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ﴾ فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالشُّعَراءُ﴾ جَمْعُ شَاعِرٍ مِثْلُ جَاهِلٍ وَجُهَلَاءَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْكُفَّارُ "يَتَّبِعُهُمُ" ضُلَّالُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَقِيلَ "الْغاوُونَ" الزَّائِلُونَ عن الحق، ودل بهذا الشُّعَرَاءَ أَيْضًا غَاوُونَ، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا غَاوِينَ مَا كَانَ أَتْبَاعُهُمْ كَذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ "النُّورِ" [[راجع ج ١٢ ص ٢٧١ طبعه أولى أو ثانية.]] أَنَّ مِنَ الشِّعْرِ مَا يَجُوزُ إِنْشَادُهُ، وَيُكْرَهُ، وَيَحْرُمُ. رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَدِفْتُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [يَوْمًا [[الزيادة من صحيح مسلم.]]] فَقَالَ: "هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ" قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ "هِيهِ" فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ "هِيهِ" ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا. فَقَالَ "هِيهِ" حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ. هَكَذَا صَوَابُ هَذَا السَّنَدِ وَصَحِيحُ رِوَايَتِهِ. وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ كِتَابِ مُسْلِمٍ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنِ الشَّرِيدِ أَبِيهِ، وَهُوَ وَهْمٌ، لِأَنَّ الشَّرِيدَ هُوَ الَّذِي أَرْدَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَاسْمُ أَبِي الشَّرِيدِ سُوَيْدٌ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حِفْظِ الْأَشْعَارِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهَا إِذَا تَضَمَّنَتِ الْحِكَمَ وَالْمَعَانِيَ الْمُسْتَحْسَنَةَ شَرْعًا وَطَبْعًا، وَإِنَّمَا اسْتَكْثَرَ النَّبِيُّ ﷺ من شعر أمية، لأنه كَانَ حَكِيمًا، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ" فَأَمَّا مَا تَضَمَّنَ ذِكْرَ اللَّهِ وَحَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ فَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْمَنَّانِ ... صَارَ الثَّرِيدُ فِي رُءُوسِ الْعِيدَانِ [[كذا في الأصول.]] أَوْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَوْ مَدْحِهُ كَقَوْلِ الْعَبَّاسِ: مِنْ قبلها طبت في الظلال وفى مستودع ... حَيْثُ يَخْصِفُ الْوَرَقُ ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بشر أنت ... وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السفين وقد الجم ... نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ [[طبق: قرن. أراد إذا مضى قرن ظهر قرن آخر.]] فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: "لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ". أَوِ الذَّبِّ عَنْهُ كَقَوْلِ حَسَّانَ: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ وَهِيَ أَبْيَاتٌ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَهِيَ فِي السِّيَرِ أَتَمُّ. أَوِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، خَرَجَ عُمَرُ لَيْلَةً يَحْرُسُ فَرَأَى مِصْبَاحًا فِي بَيْتٍ، وَإِذَا عَجُوزٌ تَنْفُشُ صُوفًا وَتَقُولُ: عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاةُ الْأَبْرَارْ ... صَلَّى عَلَيْهِ الطَّيِّبُونَ الْأَخْيَارْ قَدْ كُنْتَ قَوَّامًا بُكًا بِالْأَسْحَارْ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمَنَايَا أَطْوَارْ هَلْ يَجْمَعَنِّي وَحَبِيبِي الدَّارْ يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ، فَجَلَسَ عُمَرُ يَبْكِي. وَكَذَلِكَ ذِكْرُ أَصْحَابِهِ وَمَدَحُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَيْثُ قَالَ: إِنِّي رَضِيتُ عَلِيًّا لِلْهُدَى عَلَمًا ... كَمَا رَضِيْتُ عَتِيقًا صَاحِبَ الْغَارِ وَقَدْ رَضِيْتُ أَبَا حَفْصٍ وَشِيعَتَهُ ... وَمَا رَضِيْتُ بِقَتْلِ الشَّيْخِ فِي الدَّارِ كُلُّ الصَّحَابَةِ عِنْدِي قُدْوَةٌ عَلَمٌ ... فَهَلْ عَلَيَّ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ عَارِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَا أُحِبُّهُمْ ... إِلَّا مِنْ أجلك فأعتقني من النار وَقَالَ آخَرُ فَأَحْسَنَ: حُبُّ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ مُفْتَرَضٌ ... وَحُبُّ أَصْحَابِهِ نُورٌ بِبُرْهَانِ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ ... لَا يَرْمِيَنَّ أَبَا بَكْرٍ بِبُهْتَانِ وَلَا أَبَا حَفْصٍ الْفَارُوقَ صَاحِبَهُ ... وَلَا الْخَلِيفَةَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانِ أَمَّا عَلِيٌّ فَمَشْهُورٌ فَضَائِلُهُ ... وَالْبَيْتُ لَا يَسْتَوِي إِلَّا بِأَرْكَانِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا الِاسْتِعَارَاتُ فِي التَّشْبِيهَاتِ فَمَأْذُونٌ فِيهَا وَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْحَدَّ وَتَجَاوَزَتِ الْمُعْتَادَ، فَبِذَلِكَ يَضْرِبُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرُّؤْيَا الْمَثَلَ، وَقَدْ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ النَّبِيَّ ﷺ: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَلُوا ... إِلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنَّهُ مَنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مِنَ الِاسْتِعَارَاتِ وَالتَّشْبِيهَاتِ بِكُلِّ بَدِيعٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَسْمَعُ وَلَا يُنْكِرُ فِي تَشْبِيهِهِ رِيقِهَا بِالرَّاحِ. وَأَنْشَدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [[قال ذلك في رثاء النبي ﷺ.]]: فَقَدْنَا الْوَحَيَ إِذْ وَلَّيْتَ عَنَّا ... وَوَدَّعَنَا مِنَ اللَّهِ الْكَلَامَ سِوَى مَا قَدْ تَرَكْتَ لَنَا رَهِينًا ... تَوَارَثَهُ الْقَرَاطِيسُ الْكِرَامُ فَقَدْ أَوْرَثْتَنَا مِيرَاثَ صِدْقٍ ... عَلَيْكَ بِهِ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ فَإِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْمَعُهُ وَأَبُو بَكْرٍ يُنْشِدُهُ، فَهَلْ لِلتَّقْلِيدِ وَالِاقْتِدَاءِ مَوْضِعٌ أَرْفَعُ مِنْ هَذَا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا يُنْكِرُ الْحَسَنَ مِنَ الشِّعْرِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا مِنْ أُولِي النُّهَى، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَمَوْضِعِ الْقُدْوَةِ إِلَّا وَقَدْ قَالَ الشِّعْرَ، أَوْ تَمَثَّلَ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ فَرَضِيَهُ مَا كَانَ حِكْمَةً أَوْ مُبَاحًا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ وَلَا خَنَا وَلَا لِمُسْلِمٍ أَذًى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ وَالْمَنْثُورُ مِنَ الْقَوْلِ سَوَاءٌ لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا قَوْلُهُ، وَرَوَى أبو هريرة قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:" أَصْدَقُ كَلِمَةٍ- أَوْ أَشْعَرُ كَلِمَةٍ- قَالَتْهَا الْعَرَبُ قَوْلُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شي مَا خَلَا اللَّهُ بَاطِلُ "أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ" وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ" وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ أَنْشَدَ شِعْرًا فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: مِثْلُكَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَقَالَ: وَيْلَكَ يَا لُكَعٍ! وَهَلِ الشِّعْرُ إِلَّا كَلَامٌ لَا يُخَالِفُ سَائِرَ الْكَلَامِ إِلَّا فِي الْقَوَافِي، فَحَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ! قَالَ: وَقَدْ كَانُوا يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُنْشِدُ: يُحِبُّ الْخَمْرَ مِنْ مَالِ النَّدَامَى ... وَيَكْرَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ الْغَلُوسُ وَكَانَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ الْمَشْيَخَةِ السَّبْعَةِ شَاعِرًا مُجِيدًا مُقَدَّمًا فِيهِ. وَلِلزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ الْقَاضِي فِي أَشْعَارِهِ كِتَابٌ، وَكَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ حَسَنَةٌ تُسَمَّى عَثْمَةُ فَعَتَبَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فَطَلَّقَهَا، وَلَهُ فِيهَا أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُ: تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلَا حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ أَكَادُ إِذَا ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ انَّ إِنْسَانًا يَطِيرُ وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قُلْتُ لَهُ تَقُولُ الشِّعْرَ فِي نُسُكِكَ وَفَضْلِكَ! فَقَالَ: إِنَّ الْمَصْدُورَ إِذَا نَفَثَ بَرَأَ. الثَّانِيَةُ- وَأَمَّا الشِّعْرُ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَصَاحِبُهُ مَلُومٌ، فَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ حَتَّى يُفَضِّلُوا أَجْبَنَ النَّاسِ عَلَى عَنْتَرَةَ، وَأَشَحَّهُمْ عَلَى حَاتِمٍ، وإن يبهتوا البرئ وَيُفَسِّقُوا التَّقِيَّ، وَأَنْ يُفْرِطُوا فِي الْقَوْلِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ، رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ وَتَحْسِينِ الْقَوْلِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْفَرَزْدَقِ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعَ قَوْلَهُ: فَبِتْنَ بجانبي مصرعات [[مصرعات: سكارى.]] ... وبت أفض أغلاق الختام فَقَالَ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي الْحَدَّ بِقَوْلِهِ: "وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ". وَرُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَنْ مُبْلِغُ الْحَسْنَاءِ أَنَّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ إِذَا شِئْتُ غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو [[تجذو: تقوم على أطراف الأصابع.]] عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ [[الجوسق: القصر، فارسي معرب.]] الْمُتَهَدِّمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ. وَقَالَ: إِي وَاللَّهِ إِنِّي لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَضْلَةً مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ" فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَّا عُذْرُكَ فَقَدْ دَرَأَ عَنْكَ الْحَدَّ، وَلَكِنْ لَا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ. وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عُثْمَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَمٌّ إِلَّا عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْأَحْوَصُ فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ عُمَرَ وَالْأَحْوَصَ بِالشَّرِّ وَالْخُبْثِ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَاشْدُدْ عَلَيْهِمَا وَاحْمِلْهُمَا إِلَيَّ. فَلَمَّا أَتَاهُ الْكِتَابُ حَمَلَهُمَا إِلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: هِيهِ! فَلَمْ أَرَ كالتجمير منظر ناظر ... ولا كلئالي الْحَجِّ أَفْلَتْنَ ذَا هَوَى وَكَمْ مَالِئٍ عَيْنَيْهِ من شي غَيْرِهِ ... إِذَا رَاحَ نَحْوَ الْجَمْرَةِ الْبِيضِ كَالدُّمَى أَمَا وَاللَّهِ لَوِ اهْتَمَمْتَ بِحَجِّكَ لَمْ تَنْظُرْ إلى شي غَيْرِكَ، فَإِذَا لَمْ يُفْلِتِ النَّاسُ مِنْكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَمَتَى يُفْلِتُونَ! ثُمَّ أَمَرَ بِنَفْيِهِ. فقال: يا أمير المؤمنين! أو خير مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ أَنِّي لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الشِّعْرِ، وَلَا أَذْكُرُ النِّسَاءَ فِي شِعْرٍ أَبَدًا، وأجدد توبة، فقال: أو تفعل؟ قَالَ: نَعَمْ، فَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى تَوْبَتِهِ وَخَلَّاهُ، ثُمَّ دَعَا بِالْأَحْوَصِ، فَقَالَ هِيهِ! اللَّهُ بَيْنِي وبين قيمها ... يفر منى بها وأتبع بَلِ اللَّهُ بَيْنَ قَيِّمِهَا وَبَيْنَكَ! ثُمَّ أَمَرَ بِنَفْيِهِ، فَكَلَّمَهُ فِيهِ رِجَالٌ مِنِ الْأَنْصَارِ فَأَبَى، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرُدُّهُ مَا كَانَ لِي سُلْطَانٌ، فَإِنَّهُ فَاسِقٌ مُجَاهِرٌ. فَهَذَا حُكْمُ الشِّعْرِ الْمَذْمُومِ وَحُكْمُ صَاحِبِهِ، فَلَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا إنشاده في مسجد وفى غَيْرِهِ، كَمَنْثُورِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ وَنَحْوِهِ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "حَسَنُ الشَّعْرِ كَحَسَنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ" رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيِّ وَحَدِيثُهُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ صَحِيحٌ فِيمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ" الثَّالِثَةُ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا" وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "خُذُوا الشَّيْطَانَ- أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ- لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا" قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ هَذَا مَعَ هَذَا الشَّاعِرِ لَمَّا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ، فَلَعَلَّ هَذَا الشَّاعِرَ كَانَ مِمَّنْ قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ قَدِ اتَّخَذَ الشِّعْرَ طَرِيقًا لِلتَّكَسُّبِ، فَيُفْرِطُ فِي الْمَدْحِ إِذَا أُعْطِيَ، وَفِي الْهَجْوِ وَالذَّمِّ إِذَا مُنِعَ، فَيُؤْذِي النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَكُلُّ مَا يَكْتَسِبُهُ بِالشِّعْرِ حَرَامٌ. وَكُلُّ مَا يَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ الْإِصْغَاءُ إِلَيْهِ، بَلْ يجب الإنكار عليه، فإن لم يكن ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مِنْ لِسَانِهِ قَطْعًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُدَارِيَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ، وَيُدَافِعَهُ بِمَا أَمْكَنَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا ابْتِدَاءً، لِأَنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا أَعْطَاهُ بِنِيَّةِ وِقَايَةِ الْعِرْضِ، فَمَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ كتب له به صدقة. قَوْلُهُ: "لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ" الْقَيْحُ الْمِدَّةُ يُخَالِطُهَا دَمٌ. يُقَالُ مِنْهُ: قَاحَ الْجُرْحُ يَقِيحُ وَتَقَيَّحَ وَقَيَّحَ. وَ "يَرِيهُ" قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ مِنَ الْوَرْيِ عَلَى مِثَالِ الرَّمْيِ وَهُوَ أَنْ يَدْوَى جَوْفُهُ، يُقَالُ مِنْهُ: رَجُلٌ مَوْرِيٌّ مُشَدَّدٌ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَفِي الصحاح: وروي الْقَيْحُ جَوْفَهُ يَرِيهِ وَرْيًا إِذَا أَكَلَهُ. وَأَنْشَدَ الْيَزِيدِيُّ: قَالَتْ لَهُ وَرْيًا إِذَا تَنَحْنَحَا وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: إِنَّهُ الَّذِي قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشِّعْرُ، وَامْتَلَأَ صَدْرُهُ منه دون علم سواه ولا شي مِنَ الذِّكْرِ مِمَّنْ يَخُوضُ بِهِ فِي الْبَاطِلِ، وَيَسْلُكُ بِهِ مَسَالِكَ لَا تُحْمَدُ لَهُ، كَالْمُكْثِرِ مِنَ اللَّغَطِ وَالْهَذَرِ وَالْغِيبَةِ وَقَبِيحِ الْقَوْلِ. وَمَنْ كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه لأوصاف الْمَذْمُومَةُ الدَّنِيَّةُ، لِحُكْمِ الْعَادَةِ الْأَدَبِيَّةِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لَمَّا بَوَّبَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ "بَابُ مَا يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ الشِّعْرَ". وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الشَّعْرُ الَّذِي هُجِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أَوْ غَيْرُهُ. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ هَجْوِ النَّبِيِّ ﷺ وَكَثِيرَهُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ وَمَذْمُومٌ، وَكَذَلِكَ هَجْوُ غَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُحَرَّمٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِتَخْصِيصِ الذَّمِّ بِالْكَثِيرِ مَعْنًى. الرَّابِعَةُ- قَالَ الشَّافِعِيُّ: الشِّعْرُ نَوْعٌ مِنَ الْكَلَامِ حسنه كحسن الكلام وقبيح كَقَبِيحِ الْكَلَامِ، يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُضَمَّنَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَظِيمُ الْمَوْقِعِ. قَالَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الشِّعْرِ الَّذِي يَرُدُّ بِهِ حَسَّانُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: "إِنَّهُ لَأَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ عُمَرُ: يا بن رَوَاحَةَ! فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَلَهُوَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النبل". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ﴾ لَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ فِي رَفْعِ "وَالشُّعَراءُ" فِيمَا عَلِمْتُ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ "يَتَّبِعُهُمُ" وبه قرأ عيسى ابن عُمَرَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ حُبَّ النَّصْبِ، قَرَأَ "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ" وَ "حَمَّالَةَ الْحَطَبِ" وَ "سُورَةٌ أَنْزَلْناها". وَقَرَأَ نَافِعٌ وَشَيْبَةُ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ: "يَتْبَعُهُمْ" مُخَفَّفًا. الْبَاقُونَ "يَتَّبِعُهُمُ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَهَاجَى رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْصَارِيٌّ وَالْآخَرُ مُهَاجِرِيٌّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ غُوَاةُ قَوْمِهِ وَهُمُ السُّفَهَاءُ فَنَزَلَتْ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ هُمُ الرُّوَاةُ لِلشِّعْرِ. وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُمْ هُمُ الْكُفَّارُ يَتَّبِعُهُمْ ضُلَّالَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَى غُضَيْفٌ [[في نسخة: خصيف.]] عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: "مَنْ أَحْدَثَ هِجَاءً فِي الْإِسْلَامِ فَاقْطَعُوا لِسَانَهُ" وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا افْتَتَحَ مَكَّةَ رَنَّ [[رن: صاح صيحة حزينة.]] إِبْلِيسُ رَنَّةً وَجَمَعَ إِلَيْهِ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ ايئَسُوا أَنْ تُرِيدُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى الشِّرْكِ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ أَفْشُوا فيهما- يعنى مكة والمدينة- الشعر. السادسة- قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) يَقُولُ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ، وَلَا يَتَّبِعُونَ سُنَنَ الْحَقِّ، لِأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ تَثَبَّتَ، وَلَمْ يَكُنْ هَائِمًا يَذْهَبُ عَلَى وَجْهِهِ لَا يُبَالِي مَا قَالَ. نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى وَمُسَافِعِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) يَقُولُ: أَكْثَرُهُمْ يَكْذِبُونَ، أَيْ يَدُلُّونَ بِكَلَامِهِمْ عَلَى الْكَرَمِ وَالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ حَيْثُ قَالَ: أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... بِأَنَّكَ حَقٌّ وَالْمَلِيكُ حَمِيدُ وَلَكِنْ إِذَا ذُكِّرْتُ بَدْرًا وَأَهْلَهُ ... تَأَوَّهَ مِنِّي أَعْظُمٌ وَجُلُودُ ثُمَّ اسْتَثْنَى شِعْرَ الْمُؤْمِنِينَ: حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِنَ الْقَوْلِ الْحَقِّ، فَقَالَ: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً) فِي كَلَامِهِمْ (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) وإنما يكون الانتصار بالحق، ومما حَدَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ فَقَدِ انْتَصَرَ بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَرِّدُ: لَمَّا نَزَلَتْ: "وَالشُّعَراءُ" جَاءَ حَسَّانُ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ رَوَاحَةَ يَبْكُونَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّا شُعَرَاءُ؟ فَقَالَ: "اقْرَءُوا مَا بَعْدَهَا" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ"- الْآيَةَ- أَنْتُمْ "وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا" أَنْتُمْ "أَيْ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:" انْتَصِرُوا وَلَا تَقُولُوا إِلَّا حَقًّا وَلَا تَذْكُرُوا الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ" فَقَالَ حَسَّانُ لِأَبِي سُفْيَانَ: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ وَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعَرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ أَتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ وَقَالَ كَعْبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِي الشِّعْرِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ". وَقَالَ كَعْبٌ: جَاءَتْ سَخِينَةُ [[السخينة: طعام حار يتخذ من دقيق وسمن- وقيل من دقيق وتمر- أغلظ من الحساء وأرق من العصيدة، وكانت قريش تكثر من أكلها فعيرت بها حتى سموا سخينة.]] كَي تُغَالِبَ رَبَّهَا ... وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "لَقَدْ مَدَحَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ فِي قَوْلِكَ هَذَا". وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ" مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ". قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) فِي هَذَا تهديد لمن انتصر بظلم [أي [[زيادة يقتضيها السياق.]]] سَيَعْلَمُ الظَّالِمُونَ كَيْفَ يُخَلَّصُونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَالظَّالِمُ يَنْتَظِرُ الْعِقَابَ، وَالْمَظْلُومُ يَنْتَظِرُ النُّصْرَةَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَيَّ مُنْفَلَتٍ ينفلتون" بالفاء والتاء ومعناهما واحد الثَّعْلَبِيُّ: وَمَعْنَى "أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" أَيَّ مَصِيرٍ يَصِيرُونَ وَأَيَّ مَرْجِعٍ يَرْجِعُونَ، لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مَصِيرٍ، وَمَرْجِعُهُمْ إِلَى الْعِقَابِ وَهُوَ شَرُّ مَرْجِعٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُنْقَلَبِ وَالْمَرْجِعِ أَنَّ الْمُنْقَلَبَ الِانْتِقَالُ إِلَى ضِدِّ مَا هُوَ فِيهِ، وَالْمَرْجِعُ الْعَوْدُ مِنْ حَالٍ هُوَ فِيهَا إِلَى حَالٍ كَانَ عَلَيْهَا فَصَارَ كُلُّ مَرْجِعٍ مُنْقَلَبًا، وَلَيْسَ كُلُّ مُنْقَلَبٍ مَرْجِعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَ "أَيَّ" مَنْصُوبٌ بِ "يَنْقَلِبُونَ" وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِ "سَيَعْلَمُ" لِأَنَّ أَيًّا وَسَائِرَ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا فِيمَا ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مَعْنًى وَمَا قَبْلَهُ مَعْنًى آخَرُ فَلَوْ عَمِلَ فِيهِ مَا قَبْلَهُ لَدَخَلَ بعض المعاني في بعض.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب