الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ مُطِيعِينَ لَكَ. وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِالْوَلَدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ٤ ص ٧٢ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.]]. وَالذُّرِّيَّةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا. فَكَوْنُهَا لِلْوَاحِدِ قَوْلُهُ: "رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً" "فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا" وَكَوْنُهَا لِلْجَمْعِ "ذُرِّيَّةً ضِعافاً" وَقَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٢ ص ١٠٧ طبعه ثانية.]] اشْتِقَاقُهَا مُسْتَوْفًى. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ: "وَذُرِّيَّاتِنا" وَقَرَأَ أَبُو عُمَرَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى "وَذُرِّيَّتِنَا" بِالْإِفْرَادِ. "قُرَّةَ أَعْيُنٍ" نُصِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَنَا. وَهَذَا نَحْوَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَسٍ: "اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ" وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي "آلِ عِمْرَانَ" [[راجع ج ٤ ص ٧٣ وج ١١ ص ٨٠ طبعه أولى أو ثانية.]] وَ "مَرْيَمَ". وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا بُورِكَ لَهُ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ اجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيُّهُ مِنْ جَمَالٍ وَعِفَّةٍ وَنَظَرٍ وَحَوْطَةٍ أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ ذُرِّيَّةٌ مُحَافِظُونَ عَلَى الطَّاعَةِ، مُعَاوِنُونَ لَهُ عَلَى وَظَائِفِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى زَوْجِ أَحَدٍّ وَلَا إِلَى وَلَدِهِ، فَتَسْكُنُ عَيْنُهُ عَنِ الْمُلَاحَظَةِ، وَلَا تَمْتَدُّ عَيْنُهُ إِلَى مَا تَرَى، فَذَلِكَ حِينَ قُرَّةِ الْعَيْنِ، وَسُكُونِ النَّفْسِ. وَوَحَّدَ "قُرَّةً" لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، تَقُولُ: قَرَّتْ عَيْنُكَ قُرَّةً. وَقُرَّةُ الْعَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقَرَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقُرِّ وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَالْقُرُّ الْبَرْدُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَأَذَّى بِالْحَرِّ وَتَسْتَرِيحُ إِلَى الْبَرْدِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ دَمْعَ السُّرُورِ بَارِدٌ، وَدَمْعَ الْحُزْنِ سُخْنٌ، فَمِنْ هَذَا يُقَالُ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، وَأَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَ الْعَدُوِّ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَكَمْ سَخِنَتْ بِالْأَمْسِ عَيْنٌ قَرِيرَةٌ وَقَرَّتْ عُيُونٌ دَمْعُهَا الْيَوْمَ سَاكِبُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً﴾ أَيْ قُدْوَةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الْخَيْرِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مُتَّقِيًا قُدْوَةً، وَهَذَا هُوَ قَصْدُ الدَّاعِي. وَفِي الْمُوَطَّأِ: "إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ" فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ. وَقَالَ: "إِماماً" وَلَمْ يَقُلْ أَئِمَّةً عَلَى الْجَمْعِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ مَصْدَرٌ. يُقَالُ: أَمَّ الْقَوْمَ فُلَانٌ إِمَامًا، مِثْلَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ أَئِمَّةً، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَمِيرُنَا هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أُمَرَاءَنَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَا عَاذِلَاتِي لَا تَزِدْنَ مَلَامَتِي إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَسْنَ لِي بِأَمِيرِ أَيْ أُمَرَاءَ. وَكَانَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ يَقُولُ: الْإِمَامَةُ بِالدُّعَاءِ لَا بِالدَّعْوَى، يَعْنِي بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ وَمِنَّتِهِ لَا بِمَا يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لَمْ يَطْلُبُوا الرِّيَاسَةَ بَلْ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً فِي الدِّينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْعَلْنَا أَئِمَّةَ هُدًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا" وَقَالَ مَكْحُولٌ: اجْعَلْنَا أَئِمَّةً فِي التَّقْوَى يَقْتَدِي بِنَا الْمُتَّقُونَ. وَقِيلَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، مَجَازُهُ: وَاجْعَلِ الْمُتَّقِينَ لَنَا إِمَامًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَكْحُولٍ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طلب الرياسة في الدين ندب. وإمام وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْقِيَامِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْإِمَامُ جَمْعُ آمٍّ مِنْ أَمَّ يَؤُمُّ جُمِعَ عَلَى فِعَالٍ، نَحْوَ صَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَقَائِمٍ وَقِيَامٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا﴾ "أُوْلئِكَ" خبر و "عِبادُ الرَّحْمنِ" فِي قَوْلِ الزَّجَّاجِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ. وَمَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ أَوْصَافُهُمْ مِنَ التَّحَلِّي وَالتَّخَلِّي، وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ: التَّوَاضُعُ، وَالْحِلْمُ، وَالتَّهَجُّدُ، وَالْخَوْفُ، وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ، وَالنَّزَاهَةُ عَنِ الشِّرْكِ، وَالزِّنَى وَالْقَتْلِ، وَالتَّوْبَةُ وَتَجَنُّبُ الْكَذِبِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيءِ، وَقَبُولُ الْمَوَاعِظِ، وَالِابْتِهَالُ إِلَى اللَّهِ. وَ "الْغُرْفَةَ" الدَّرَجَةُ الرَّفِيعَةُ وَهِيَ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ وَأَفْضَلُهَا كَمَا أَنَّ الْغُرْفَةَ أَعْلَى مَسَاكِنِ الدُّنْيَا. حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْغُرْفَةُ الْجَنَّةُ. "بِما صَبَرُوا" أَيْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَطَاعَةِ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ ابن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: "بِما صَبَرُوا" عَلَى الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "بِما صَبَرُوا" عَنِ الشَّهَوَاتِ. (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفُ "وَيَلْقَوْنَ" مُخَفَّفَةً، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ، قَالَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فُلَانٌ يُتَلَقَّى بِالسَّلَامِ وَبِالتَّحِيَّةِ وَبِالْخَيْرِ (بِالتَّاءِ)، وَقَلَّمَا يَقُولُونَ فُلَانٌ يُلَقَّى السَّلَامَةَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ "وَيُلَقَّوْنَ" وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَرَّاءُ وَاخْتَارَهُ غَلَطٌ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ "يُلَقَّوْنَ" كَانَتْ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِتَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ، وَقَالَ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُتَلَقَّى بِالسَّلَامِ وَبِالْخَيْرِ، فَمِنْ عَجِيبِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ قَالَ يُتَلَقَّى وَالْآيَةُ "يُلَقَّوْنَ" وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ. لِأَنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ يُتَلَقَّى بِالْخَيْرِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ (الْبَاءِ)، فَكَيْفَ يُشْبِهُ هَذَا ذَاكَ! وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ "وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً" وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأُولَى عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ. وَالتَّحِيَّةُ مِنَ اللَّهِ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: التَّحِيَّةُ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ وَالْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾ وَسَيَأْتِي. (خالِدِينَ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ (فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً). قوله تعالى: (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ) هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ تَعَلَّقَتْ بِهَا الْمُلْحِدَةُ. يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِفُلَانٍ أَيْ مَا بَالَيْتُ بِهِ، أَيْ مَا كَانَ لَهُ عِنْدِي وَزْنٌ وَلَا قَدْرٌ. وَأَصْلُ يَعْبَأُ مِنَ الْعِبْءِ وَهُوَ الثقل. وقول الشاعر» : كأن بصدره وبجانبيه عبيرا بات يعبؤه عَرُوسُ أَيْ يَجْعَلُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. فَالْعِبْءُ الحمل الثقيل، والجمع أعباء. والعبء المصدر. وما اسْتِفْهَامِيَّةٌ، ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ الزَّجَّاجِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْفَرَّاءُ. وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، لِأَنَّكَ إِذَا حَكَمْتَ بِأَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ فَهُوَ نَفْيٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ" قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ عِنْدِي أَنَّ مَوْضِعَ "مَا" نَصْبٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ، أَيْ أَيُّ مُبَالَاةٍ يُبَالِي رَبِّي بِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ لِتَعْبُدُوهُ، فَالْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وهو اختيار الْفَرَّاءِ. وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ" تَقْدِيرُهُ: لَمْ يَعْبَأْ بِكُمْ. وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ فَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِقُرَيْشٍ مِنْهُمْ: أَيْ مَا يُبَالِي اللَّهُ بِكُمْ لَوْلَا عِبَادَتُكُمْ إِيَّاهُ أَنْ لَوْ كَانَتْ، وَذَلِكَ الَّذِي يَعْبَأُ بِالْبَشَرِ مِنْ أَجْلِهِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قِرَاءَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ. "فَقَدْ كَذَّبَ الكافرون" فالخطاب بما يَعْبَأُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، ثُمَّ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: فَأَنْتُمْ قَدْ كَذَّبْتُمْ وَلَمْ تَعْبُدُوهُ فَسَوْفَ يَكُونُ التَّكْذِيبُ هُوَ سَبَبَ الْعَذَابِ لِزَامًا. وَقَالَ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى، لَوْلَا اسْتِغَاثَتُكُمْ إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. بَيَانُهُ: "فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ" ونحو هذا. وقيل: "ما يَعْبَؤُا بِكُمْ" أَيْ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِكُمْ وَلَا هُوَ عِنْدَهُ عظيم "لَوْلا دُعاؤُكُمْ" مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالشُّرَكَاءَ. بَيَانُهُ: "مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ"، قال الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ: بَلَغَنِي فِيهَا أَيْ مَا خَلَقْتُكُمْ وَلِي حَاجَةٌ إِلَيْكُمْ إلا تَسْأَلُونِي فَأَغْفِرَ لَكُمْ وَأُعْطِيَكُمْ. وَرَوَى وَهْبُ بْنُ منبه أنه كان في التوراة: "يا بن آدَمَ وَعِزَّتِي مَا خَلَقْتُكَ لِأَرْبَحَ عَلَيْكَ إِنَّمَا خَلَقْتُكَ لِتَرْبَحَ عَلَيَّ فَاتَّخِذْنِي بَدَلًا مِنْ كُلِّ شي فأنا خير لك من كل شي". قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: قَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ "فَقَدْ كَذَّبَ الْكَافِرُونَ". قَالَ الزَّهْرَاوِيُّ وَالنَّحَّاسُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ عَلَى التَّفْسِيرِ، لِلتَّاءِ وَالْمِيمِ فِي "كَذَّبْتُمْ". وَذَهَبَ الْقُتَبِيُّ وَالْفَارِسِيُّ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. الْأَصْلُ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ، وجواب "لَوْلا" مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ: لَمْ يُعَذِّبْكُمْ. وَنَظِيرُ قَوْلِهِ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ آلِهَةً قَوْلُهُ: "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ". (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أَيْ كَذَّبْتُمْ بِمَا دُعِيتُمْ إِلَيْهِ، هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَكَذَّبْتُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ عَلَى الثَّانِي. (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أَيْ يَكُونُ تَكْذِيبُكُمْ مُلَازِمًا لَكُمْ. وَالْمَعْنَى: فَسَوْفَ يَكُونُ جَزَاءُ التَّكْذِيبِ كَمَا قَالَ: "وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً" أَيْ جَزَاءُ مَا عَمِلُوا وَقَوْلُهُ: "فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" أَيْ جَزَاءَ مَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَحَسُنَ إِضْمَارُ التَّكْذِيبِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ فِعْلِهِ، لِأَنَّكَ إِذَا ذَكَرْتَ الْفِعْلَ دَلَّ بِلَفْظِهِ عَلَى مَصْدَرِهِ، كَمَا قَالَ: "وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ" أَيْ لَكَانَ الْإِيمَانُ. وَقَوْلُهُ: "وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ" أَيْ يَرْضَى الشُّكْرَ. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللِّزَامِ هُنَا مَا نَزَلَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ ابن مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبِ وَأَبِي مَالِكٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: وَقَدْ مَضَتِ الْبَطْشَةُ وَالدُّخَانُ وَاللِّزَامُ. وَسَيَأْتِي مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ "الدُّخَانِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ تَوَعُّدٌ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا: اللِّزَامُ التَّكْذِيبُ نَفْسُهُ، أَيْ لَا يُعْطَوْنَ التَّوْبَةَ مِنْهُ، ذَكَرَهُ الزَّهْرَاوِيُّ، فَدَخَلَ فِي هَذَا يَوْمُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَلْزَمُونَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِزَامًا فَيْصَلًا [أَيْ] فَسَوْفَ يَكُونُ فَيْصَلًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى كَسْرِ اللَّامِ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِصَخْرٍ: فَإِمَّا يَنْجُوَا مِنْ خَسْفِ أَرْضٍ فَقَدْ لَقِيَا حُتُوفَهُمَا لِزَامًا وَلِزَامًا وَمُلَازَمَةً وَاحِدٌ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: "لِزاماً" يَعْنِي عَذَابًا دَائِمًا لَازِمًا، وَهَلَاكًا مُفْنِيًا يُلْحِقُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، كَقَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ: فَفَاجَأَهُ بِعَادِيَةٍ [[العادية: القوم يعدون على أرجلهم، أي فحملتهم لزام كأنهم لزموه لا يفارقون ما هم فيه. وشبه حملتهم بتهدم الحوض إذا تهدم. ويروي: فلم ير غير عادية لزاما]] لِزَامٍ كَمَا يَتَفَجَّرُ الْحَوْضُ اللَّقِيفُ يَعْنِي بِاللِّزَامِ الَّذِي يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَبِاللَّقِيفِ الْمُتَسَاقِطَ الْحِجَارَةِ الْمُتَهَدِّمَ. النَّحَّاسُ: وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ قُعْنُبًا أَبَا السَّمَّالِ يَقْرَأُ: "لَزَامًا" بِفَتْحِ اللَّامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَكُونُ مَصْدَرَ لَزِمَ وَالْكَسْرُ أَوْلَى، يَكُونُ مِثْلَ قِتَالٍ وَمُقَاتَلَةٍ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى الْكَسْرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى". قَالَ غَيْرُهُ: اللِّزَامُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرُ لَازَمَ لزاما مثل خاصم خصاما، واللزام بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ لَزِمَ مِثْلُ سَلِمَ سَلَامًا أَيْ سلامة، فاللزام بِالْفَتْحِ اللُّزُومُ، وَاللِّزَامُ الْمُلَازَمَةُ، وَالْمَصْدَرُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ وَقَعَ مَوْقِعَ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَاللِّزَامُ وَقَعَ مَوْقِعَ مُلَازِمٍ، وَاللِّزَامُ وَقَعَ مَوْقِعَ لَازِمٍ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً" أَيْ غَائِرًا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلِلْفَرَّاءِ قَوْلٌ فِي اسْمِ يَكُونُ، قَالَ: يَكُونُ مَجْهُولًا وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَكُونُ خَبَرُهُ إِلَّا جُمْلَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ" وكما حكى النحويون كان زيد منطلق ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول، والتقدير: كَانَ الْحَدِيثُ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ كَانَ مُنْطَلِقًا، وَيَكُونُ فِي كَانَ مَجْهُولٌ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْنَاهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَالْحَمْدُ لله رب العالمين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب