الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ "إِنَّمَا" فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْحَصْرِ، الْمَعْنَى: لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِيمَانُ مَنْ آمَنَ بالله ورسول إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّسُولِ سَامِعًا غَيْرَ مُعَنِّتٍ فِي أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ يُرِيدُ إِكْمَالَ أَمْرٍ فَيُرِيدُ هُوَ إِفْسَادَهُ بِزَوَالِهِ فِي وَقْتِ الْجَمْعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّهُ أَنْزَلَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَإِنَّمَا النُّزُولُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَخَتَمَ السُّورَةَ بِتَأْكِيدِ الْأَمْرِ فِي مُتَابَعَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيُعْلِمَ أَنَّ أَوَامِرَهُ كَأَوَامِرِ الْقُرْآنِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي الْأَمْرِ الْجَامِعِ مَا هُوَ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ مَا لِلْإِمَامِ مِنْ حَاجَةٍ إِلَى تَجَمُّعِ النَّاسِ فِيهِ لِإِذَاعَةِ مَصْلَحَةٍ، مِنْ إِقَامَةِ سُنَّةٍ فِي الدِّينِ، أَوْ لِتَرْهِيبِ عَدُوٍّ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَلِلْحُرُوبِ، قال الله تعالى:" وَشاوِرْهُمْ فِي [[راجع ج ٤ ص ٢٥٠.]] الْأَمْرِ" [آل عمران: ١٥٩]. فَإِذَا كَانَ أَمْرٌ يَشْمَلُهُمْ نَفْعُهُ وَضُرُّهُ جَمَعَهُمْ لِلتَّشَاوُرِ فِي ذَلِكَ. وَالْإِمَامُ الَّذِي يُتَرَقَّبُ إِذْنُهُ هُوَ إِمَامُ الْإِمْرَةِ، فَلَا يَذْهَبُ أَحَدٌ لِعُذْرٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ بِإِذْنِهِ ارْتَفَعَ عَنْهُ الظَّنُّ السَّيِّئُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ: الْجُمُعَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْجَامِعِ. وَإِمَامُ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَأْذَنَ إِذَا قَدَّمَهُ إِمَامُ الْإِمْرَةِ، إِذَا كَانَ يَرَى الْمُسْتَأْذِنَ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَادٌ: مَنْ جَعَلَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ فَلْيَخْرُجْ دُونَ إِذْنٍ، وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ حَتَّى أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ رَعَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يُسْتَأْذَنَ أَمِيرُ الْإِمْرَةِ الَّذِي هُوَ فِي مَقْعَدِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ فِي حَبْسِ ذَلِكَ الرَّجُلِ لِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. فَأَمَّا إمام الصلاة فقط فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الدِّينِ لِلَّذِي هُوَ فِي مَقْعَدِ النُّبُوَّةِ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ حِينَ جَاءَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ، وَغَطَفَانُ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا مِنَ الْعَمَلِ وَيَعْتَذِرُونَ بِأَعْذَارٍ كَاذِبَةٍ. وَنَحْوَهُ رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي الرَّجْعَةِ فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ: (انْطَلِقْ فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِمُنَافِقٍ) يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُسْمِعَ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعُمْرَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ: (يَا أَبَا حَفْصٍ لَا تَنْسَنَا فِي صَالِحِ دُعَائِكَ). قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِتَنَاوُلِهِ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ. وَاخْتَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَا ذَكَرَهُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ فِي الْحَرْبِ. قَالَ: وَالَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا- قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً﴾ [النور: ٦٣]. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَلَوَّذُونَ وَيَخْرُجُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَيَتْرُكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِأَلَّا يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ إِيمَانَهُ. الثَّانِي- قوله: "لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ" وَأَيُّ إِذْنٍ فِي الحدث [[في ب وج وك: المحدث.]] وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خِيَارٌ فِي مَنْعِهِ ولا إبقائه، وقد قال: "فأذن لمشيت مِنْهُمْ"، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْحَرْبِ. قُلْتُ: الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ أَوْلَى وَأَرْفَعُ وَأَحْسَنُ وَأَعْلَى. (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَأْذَنَ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَوْلُهُ: "فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ" مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾[[راجع ج ٨ ص ١٥٤.]] [التوبة: ٤٣] أَيْ لِخُرُوجِهِمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِنْ عَلِمْتَ لَهُمْ عذرا. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب