الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً﴾ ذَكَرَ مِنْ حُجَجِهِ شَيْئًا آخَرَ، أَيْ أَلَمْ تَرَ بِعَيْنَيْ قَلْبِكَ. (يُزْجِي سَحاباً) أَيْ يَسُوقُ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ. وَالرِّيحُ تُزْجِي السَّحَابَ، وَالْبَقَرَةُ تُزْجِي وَلَدَهَا أَيْ تَسُوقُهُ. وَمِنْهُ زَجَا الْخَرَاجُ يَزْجُو زَجَاءً (مَمْدُودًا) إِذَا تَيَسَّرَتْ جِبَايَتُهُ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: إِنِّي أَتَيْتُكَ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَطَنِي ... أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ مَا بِهَا رَمَقُ وَقَالَ أَيْضًا: أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَوْزَاءِ سَارِيَةٌ ... تُزْجِي الشِّمَالُ عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أَيْ يَجْمَعُهُ عِنْدَ انْتِشَائِهِ، لِيَقْوَى وَيَتَّصِلَ وَيَكْثُفَ. وَالْأَصْلُ فِي التَّأْلِيفِ الْهَمْزُ، تَقُولُ: تَأَلَّفَ. وقرى "يؤلف" بِالْوَاوِ تَخْفِيفًا. وَالسَّحَابُ وَاحِدٌ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ معناه جمع، ولهذا قال: ﴿يُنْشِئُ السَّحابَ﴾[[راجع ج ٩ ص ٢٩٥.]] [الرعد: ١٢]. وَ "بَيْنَ" لَا يَقَعُ إِلَّا لِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَكَيْفَ جَازَ بَيْنَهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ "بَيْنَهُ" هُنَا لِجَمَاعَةِ السَّحَابِ، كَمَا تَقُولُ: الشَّجَرُ قَدْ جَلَسْتُ بَيْنَهُ لِأَنَّهُ جَمْعٌ، وَذَكَرَ الْكِنَايَةَ عَلَى اللَّفْظِ، قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاءُ. وَجَوَابٌ آخَرُ- وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّحَابُ وَاحِدًا فَجَازَ أَنْ يُقَالَ بَيْنَهُ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى قِطَعٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قَالَ: ... بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ فَأُوقِعَ "بَيْنَ" عَلَى الدَّخُولِ، وَهُوَ وَاحِدٌ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَوَاضِعَ. وَكَمَا تَقُولُ: مَا زِلْتُ أَدُورُ بَيْنَ الْكُوفَةِ لِأَنَّ الْكُوفَةَ أماكن كثيرة، قال الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ. وَزَعَمَ الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَانَ يُرْوَى: ... بَيْنَ الدَّخُولِ وَحَوْمَلِ (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أَيْ مُجْتَمِعًا، يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ﴾[[راجع ج ١٧ ص ٧٧.]] [الطور: ٤٤]. وَالرَّكْمُ جَمْعُ الشَّيْءِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَكَمَ الشَّيْءَ يَرْكُمُهُ رَكْمًا إِذَا جَمَعَهُ وَأَلْقَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. وَارْتَكَمَ الشَّيْءُ وَتَرَاكَمَ إِذَا اجْتَمَعَ. وَالرُّكْمَةُ الطِّينُ الْمَجْمُوعُ. وَالرُّكَامُ: الرَّمَلُ الْمُتَرَاكِمُ. وَكَذَلِكَ السَّحَابُ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَمُرْتَكَمُ الطَّرِيقِ (بِفَتْحِ الْكَافِ) جَادَّتُهُ. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) فِي "الْوَدْقَ" قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ الْبَرْقُ، قَالَهُ أَبُو الْأَشْهَبِ الْعُقَيْلِيُّ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَثَرْنَا عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ منها ... خروج الودق من خلل السحاب الثَّانِي- أَنَّهُ الْمَطَرُ، قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَمِنْهُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: فَدَمْعُهُمَا وَدْقٌ وَسَحٌّ وَدِيمَةٌ ... وَسَكْبٌ وَتَوْكَافٌ وَتَنْهَمِلَانِ يُقَالُ: وَدَقَتِ السَّحَابَةُ فَهِيَ وَادِقَةٌ. وَوَدَقَ الْمَطَرُ يَدِقُ وَدْقًا، أَيْ قَطَرَ. وَوَدَقْتُ إِلَيْهِ دَنَوْتُ مِنْهُ. وَفِي الْمَثَلِ: وَدَقَ الْعَيْرُ [[في ب وج وك: البعير. ولعلها رواية في المثل أو تحريف الناسخ.]] إِلَى الْمَاءِ، أَيْ دَنَا مِنْهُ. يُضْرَبُ لِمَنْ خَضَعَ لِلشَّيْءِ لِحِرْصِهِ عَلَيْهِ. والموضع مودق. وودقت [به] وَدْقًا اسْتَأْنَسْتُ بِهِ. وَيُقَالُ لِذَاتِ الْحَافِرِ إِذَا أَرَادَتِ الْفَحْلَ: وَدَقَتْ تَدِقُ وَدْقًا، وَأَوْدَقَتْ وَاسْتَوْدَقَتْ. وَأَتَانٌ وَدُوقٌ وَفَرَسٌ وَدُوقٌ، وَوَدِيقٌ أَيْضًا، وَبِهَا وِدَاقٌ. وَالْوَدِيقَةُ: شِدَّةُ الْحَرِّ. وَخِلَالُ جَمْعُ خَلَلٍ، مِثْلُ الْجَبَلِ وَالْجِبَالِ، وَهِيَ فُرَجُهُ وَمَخَارِجُ الْقَطْرِ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقْرَةِ" [[راجع ج ٢ ص ١٢ - ٠١ ٢. (١٩)]] أَنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّ السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ، لَوْلَا السَّحَابُ حِينَ يَنْزِلُ الْمَاءُ مِنَ السَّمَاءِ لَأَفْسَدَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ والضحاك وأبو العالية: "مِنْ خِلالِهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَتَقُولُ: كُنْتُ فِي خِلَالِ الْقَوْمِ، أَيْ وَسَطَهُمْ. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا مِنْ بَرَدٍ، فَهُوَ يُنْزِلُ مِنْهَا بَرَدًا، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ يُنْزِلُ مِنْ جِبَالِ الْبَرَدِ بَرَدًا، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الْفَرَّاءِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ عِنْدَهُ: مِنْ جِبَالٍ بَرَدٍ، فَالْجِبَالُ عِنْدَهُ هِيَ الْبَرَدُ. وَ "بَرَدٍ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَوْلِهِ الْمَعْنَى: مِنْ جِبَالٍ بَرَدٍ فِيهَا، بِتَنْوِينِ جِبَالٍ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا بَرَدٌ. وَ "مِنْ" صِلَةٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ قَدْرَ جِبَالٍ، أَوْ مِثْلَ جِبَالٍ مِنْ بَرَدٍ إِلَى الْأَرْضِ، فَ"- مِنْ "الْأُولَى لِلْغَايَةِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ الْبَرَدَ بَعْضُ الْجِبَالِ، وَالثَّالِثَةُ لِتَبْيِينِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ جِنْسَ تِلْكَ الْجِبَالِ مِنَ الْبَرَدِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ" مِنْ "فِي الْجِبَالِ وَ" بَرَدٍ" زَائِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجِبَالُ وَالْبَرَدُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَرَدًا يَكُونُ كَالْجِبَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) فتكون إِصَابَتُهُ نِقْمَةً، وَصَرْفُهُ نِعْمَةً. وَقَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ٢١٨.]]. وَ "الرَّعْدِ" [[راجع ج ٩ ص ٢٩٨.]] أَنَّ مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الرَّعْدَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ثَلَاثًا عُوفِيَ مِمَّا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الرَّعْدِ. (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أَيْ ضَوْءُ ذَلِكَ الْبَرْقِ الَّذِي فِي السَّحَابِ (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) مِنْ شِدَّةِ بَرِيقِهِ وَضَوْئِهِ. قَالَ الشَّمَّاخُ: وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا ... لِيُبْصِرَ ضَوْءَهَا إلا البصير وقال امرؤ القيس: يضئ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ ... أَهَانَ السَّلِيطَ فِي الذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ [[السليط: الزيت. والذبال: جمع ذبالة، وهى الفتيلة.]] فَالسَّنَا (مَقْصُورٌ) ضَوْءُ الْبَرْقِ. وَالسَّنَا أَيْضًا نَبْتٌ يُتَدَاوَى بِهِ. وَالسَّنَاءُ مِنَ الرِّفْعَةِ مَمْدُودٌ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "سَنَاءُ" بِالْمَدِّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ مِنْ شِدَّةِ الضَّوْءِ وَالصَّفَاءِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرَفِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: السَّنَا (مَقْصُورٌ) وَهُوَ اللَّمْعُ، فَإِذَا كَانَ مِنَ الشَّرَفِ والحسب فهو ممدود، وأصلهما واحد وهو الالماع [[كذا في ب وج وك.]]. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "سَنَاءُ بُرَقِهِ" قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: وَهُوَ جَمْعُ بُرْقَةٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْبُرْقَةُ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ، وَالْبَرْقَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ: "يُذْهِبُ بِالْأَبْصَارِ" بضم الياء وكسر الهاء، من الا ذهاب، وَتَكُونُ الْبَاءُ فِي "بِالْأَبْصارِ" صِلَةً زَائِدَةً. الْبَاقُونَ "يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ، وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ. وَالْبَرْقُ دَلِيلٌ عَلَى تَكَاثُفِ السَّحَابِ، وَبَشِيرٌ بِقُوَّةِ الْمَطَرِ، وَمُحَذِّرٌ مِنْ نُزُولِ الصَّوَاعِقِ. (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) قِيلَ: تَقْلِيبُهُمَا أَنْ يَأْتِيَ بِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ. وَقِيلَ: تَقْلِيبُهُمَا نَقْصُهُمَا وَزِيَادَتُهُمَا وَقِيلَ: هُوَ تَغْيِيرُ النَّهَارِ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ مَرَّةً وَبِضَوْءِ الشَّمْسِ أُخْرَى، وَكَذَا اللَّيْلُ مَرَّةً بِظُلْمَةِ السَّحَابِ وَمَرَّةً بِضَوْءِ الْقَمَرِ، قَالَهُ النَّقَّاشُ. وَقِيلَ: تَقْلِيبُهُمَا بِاخْتِلَافِ مَا يُقَدَّرُ فِيهِمَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أَيْ فِي الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقَلُّبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَحْوَالِ الْمَطَرِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ (لَعِبْرَةً) أَيِ اعْتِبَارًا (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي لأهل البصائر من خلقي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب