الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ، أَيْ قَالُوا: "أَإِذا مِتْنا"- إِلَى قَوْلِهِ- "إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ". ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ وَذَكَّرَهُمْ قُدْرَتَهُ عَلَى كل شي، ثُمَّ قَالَ: هُمْ مُصِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ تَيَقَّنَ ضَلَالَتَهُ وَعَايَنَ الْمَلَائِكَةَ الَّتِي تَقْبِضُ رُوحَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [[راجع ج ٨ ص ٢٨.]] ٥٠" [الأنفال: ٥٠]. (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) تَمَنَّى الرَّجْعَةَ كَيْ يَعْمَلَ صَالِحًا فِيمَا تَرَكَ. وَقَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي النَّفْسِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [[راجع ج ١٧ ص ٢٩٤،.]] " [المجادلة: ٨]. فَأَمَّا قَوْلُهُ "ارْجِعُونِ" وَهُوَ مُخَاطِبُ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَقُلْ: "ارْجِعْنِي" جَاءَ عَلَى تَعْظِيمِ الذِّكْرِ لِلْمُخَاطَبِ. وَقِيلَ: اسْتَغَاثُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أولا، فقال قائلهم: رب، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ: ارْجِعُونِ إلى الدنيا، قاله ابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى "ارْجِعُونِ" عَلَى جِهَةِ التَّكْرِيرِ، أَيْ أَرْجِعْنِي أَرْجِعْنِي أَرْجِعْنِي وَهَكَذَا. قَالَ الْمُزَنِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [[راجع ج ١٧ ص ١٦.]] [٥٠: ٢٤]" [ق: ٢٤] قَالَ: مَعْنَاهُ أَلْقِ أَلْقِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ بِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ. قُلْتُ: لَيْسَ سُؤَالُ الرَّجْعَةِ مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِ فَقَدْ يَسْأَلُهَا الْمُؤْمِنُ كَمَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ عَلَى مَا يَأْتِي [[راجع ج ١٨ ص ١٣٠.]]. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَمُوتُ حَتَّى يعرف اضطرارا أهو من أولياء اللَّهِ أَمْ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَأَلَ الرَّجْعَةَ، فَيَعْلَمُوا ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ وَذَوَاقِهِ. (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) ١٠٠ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. (فِيما تَرَكْتُ) ١٠٠ أَيْ فِيمَا ضَيَّعْتُ وَتَرَكْتُ الْعَمَلَ بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ. وَقِيلَ: "فِيما تَرَكْتُ ١٠٠" مِنَ الْمَالِ فَأَتَصَدَّقَ. وَ "لَعَلَّ" تَتَضَمَّنُ تَرَدُّدًا، وَهَذَا الَّذِي يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ قَدِ اسْتَيْقَنَ الْعَذَابَ، وَهُوَ يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ. فَالتَّرَدُّدُ يَرْجِعُ إِمَّا إِلَى رَدِّهِ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِمَّا إِلَى التَّوْفِيقِ، أَيْ أَعْمَلُ صَالِحًا إِنْ وَفَّقْتَنِي، إِذْ لَيْسَ عَلَى قَطْعٍ مِنْ وُجُودِ الْقُدْرَةِ وَالتَّوْفِيقِ لَوْ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا. (كَلَّا) هَذِهِ كَلِمَةُ رَدٍّ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَظُنُّهُ مِنْ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا، بَلْ هُوَ كَلَامٌ يَطِيحُ فِي أَدْرَاجِ الرِّيحِ. وَقِيلَ: لَوْ أُجِيبَ إِلَى مَا يَطْلُبُ لَمَا وَفَّى بِمَا يَقُولُ، كَمَا قَالَ:" وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [[راجع ج ٦ ص ١٠.]] " [الانعام: ٢٨]. وَقِيلَ: "كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ١٠٠" تَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَا خُلْفَ فِي خَبَرِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَنْ يُؤَخِّرَ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ هَذَا الْكَافِرَ لَا يُؤْمِنُ. وَقِيلَ: "إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ١٠٠" عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَكِنْ لَا تَنْفَعُ. (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) ١٠٠ أَيْ وَمِنْ أَمَامِهِمْ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ. وَقِيلَ: مِنْ خَلْفِهِمْ. "بَرْزَخٌ ١٠٠" أَيْ حَاجِزٌ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا أَنَّ الْبَرْزَخَ هُوَ الْحَاجِزُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الدُّنْيَا. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: هُوَ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: حِجَابٌ. السُّدِّيُّ: أَجَلٌ. قَتَادَةُ: بَقِيَّةُ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْإِمْهَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْأَجَلُ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ. وَكُلُّ حَاجِزٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ بَرْزَخٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَالْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ، فَمَنْ مَاتَ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْبَرْزَخِ. وَقَالَ رَجُلٌ بِحَضْرَةِ الشَّعْبِيِّ: رَحِمَ اللَّهُ فُلَانًا فَقَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ! فَقَالَ: لَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ الْبَرْزَخِ، وَلَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا مِنَ الْآخِرَةِ. وَأُضِيفَ "يَوْمِ" إِلَى "يُبْعَثُونَ" لِأَنَّهُ ظَرْفُ زَمَانٍ، وَالْمُرَادُ بِالْإِضَافَةِ المصدر.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب