الباحث القرآني

فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكَ﴾ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. قِيلَ: يَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، أَيْ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ اتَّبِعُوا ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ﴾ الشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ، وَهُوَ كل شي لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَمْرٌ أَشْعَرَ بِهِ وَأَعْلَمَ، وَمِنْهُ شِعَارُ الْقَوْمِ فِي الْحَرْبِ، أَيْ عَلَامَتُهُمِ الَّتِي يَتَعَارَفُونَ بِهَا. وَمِنْهُ إِشْعَارُ الْبَدَنَةِ وَهُوَ الطَّعْنُ فِي جَانِبِهَا الْأَيْمَنِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ فَيَكُونَ عَلَامَةً، فَهِيَ تُسَمَّى شَعِيرَةً بِمَعْنَى الْمَشْعُورَةِ. فَشَعَائِرُ اللَّهِ أَعْلَامُ دِينِهِ لَا سِيَّمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنَاسِكِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ هُنَا تَسْمِينُ البدن والاهتمام بأمرها والمغالاة بها، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ شِرَاءِ الْبُدْنِ رُبَّمَا يُحْمَلُ عَلَى فِعْلِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَإِذَا عَظَّمَهَا مَعَ حُصُولِ الْإِجْزَاءِ بِمَا دُونَهُ فَلَا يَظْهَرُ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا تَعْظِيمُ الشَّرْعِ، وَهُوَ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- الضَّمِيرُ فِي "إِنَّهَا" عَائِدٌ عَلَى الْفِعْلَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الْكَلَامُ: وَلَوْ قَالَ فَإِنَّهُ لَجَازَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الشَّعَائِرِ، أَيْ فَإِنَّ تَعْظِيمَ الشَّعَائِرِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، فَرَجَعَتِ الْكِنَايَةُ إِلَى الشَّعَائِرِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ قُرِئَ "الْقُلُوبِ" بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا فَاعِلَةٌ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ "تَقْوَى" وَأَضَافَ التَّقْوَى إِلَى الْقُلُوبِ [[في الأصول: "وأضاف إلى القلب".]] لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوَى فِي الْقَلْبِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: (التَّقْوَى هَاهُنَا) وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَكُمْ فِيها مَنافِعُ﴾ يَعْنِي الْبُدْنَ مِنَ الرُّكُوبِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالصُّوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَبْعَثْهَا ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأجل المسمى، قاله ابن عباس. فَإِذَا صَارَتْ بُدْنًا هَدْيًا فَالْمَنَافِعُ فِيهَا أَيْضًا رُكُوبُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَشُرْبُ لَبَنِهَا بَعْدَ رِيِّ فَصِيلِهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. فَقَالَ: (ارْكَبْهَا) قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: (ارْكَبْهَا وَيْلَكَ) فِي الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ. وَرُوِيَ عن جابر بن عبد الله وسيل عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا). وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَحْرُهَا، قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. السَّادِسَةُ- ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِ رُكُوبِ الْبَدَنَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (ارْكَبْهَا). وَمِمَّنْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ: لَا بَأْسَ بِرُكُوبِ الْبَدَنَةِ رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَرْكَبُهَا إِلَّا إِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ فَإِنَّهُ مُقَيَّدٌ وَالْمُقَيَّدُ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. ثم إذا ركبها عنده الحاجة نزل، قاله إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي. وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ، وَحُجَّتُهُ إِبَاحَةُ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ الرُّكُوبَ فَجَازَ لَهُ اسْتِصْحَابُهُ. وَقَوْلُهُ: (إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا) يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَا حَكَاهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً وَقَدْ جُهِدَ، فَقَالَ: (ارْكَبْهَا). وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ نَقَصَهَا الرُّكُوبُ الْمُبَاحُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ يُرِيدُ أَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ الطَّوَافُ. فَقَوْلُهُ: "مَحِلُّها" مَأْخُوذٌ مِنْ إِحْلَالِ الْمُحْرِمِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ شَعَائِرَ الْحَجِّ كُلَّهَا مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ يَنْتَهِي إِلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. فَالْبَيْتُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُرَادٌ بِنَفْسِهِ، قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَنْتَهِي إِلَى مَكَّةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى الْحَرَمِ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ الْبُدْنُ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الشَّعَائِرِ مَعَ عُمُومِهَا وَإِلْغَاءِ خُصُوصِيَّةِ ذِكْرِ الْبَيْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب