الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ٣٠ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "أَوَلَمْ ٢٦٠" بِالْوَاوِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ وَشِبْلُ بْنُ عَبَّادٍ "أَلَمْ تَرَ" بِغَيْرِ وَاوٍ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ مَكَّةَ. "أَوَلَمْ يَرَ ٣٠" بِمَعْنَى يَعْلَمْ. "الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً ٣٠" قَالَ الْأَخْفَشُ: "كانَتا" لِأَنَّهُمَا صِنْفَانِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: هُمَا لِقَاحَانِ أَسْوَدَانِ، وَكَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا﴾[[راجع ج ١٤ ص ٣٥٦.]] [فاطر: ٤١] قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: "كانَتا" لِأَنَّهُ يُعَبَّرُ عَنِ السموات بلفظ الواحد بسماء، ولان السموات كَانَتْ سَمَاءً وَاحِدَةً، وَكَذَلِكَ الْأَرَضُونَ. وَقَالَ: "رَتْقاً ٣٠" وَلَمْ يَقُلْ رَتْقَيْنِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَالْمَعْنَى: كَانَتَا ذَوَاتَيْ رَتْقٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: "رَتَقًا" بِفَتْحِ التَّاءِ. قَالَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: هُوَ صَوَابٌ وَهِيَ لُغَةٌ. وَالرَّتْقُ السَّدُّ ضِدُّ الْفَتْقِ، وَقَدْ رَتَقْتُ الْفَتْقَ أَرْتُقُهُ فَارْتَتَقَ أَيِ الْتَأَمَ، وَمِنْهُ الرَّتْقَاءُ لِلْمُنْضَمَّةِ الْفَرْجِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي أَنَّهَا كَانَتْ شَيْئًا وَاحِدًا مُلْتَزِقَتَيْنِ فَفَصَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِالْهَوَاءِ. وَكَذَلِكَ قَالَ كعب: خلق الله السموات وَالْأَرْضَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ خَلَقَ رِيحًا بوسطها [[في ب وج وك: توسطتها.]] ففتحها بها، وجعل السموات سَبْعًا وَالْأَرَضِينَ سَبْعًا. وَقَوْلٌ ثَانٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ والسدي وأبو صالح: كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وَكَذَلِكَ الْأَرَضِينَ كَانَتْ مُرْتَتِقَةً طَبَقَةً وَاحِدَةً فَفَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعًا. وَحَكَاهُ الْقُتَبِيُّ فِي عُيُونِ الْأَخْبَارِ لَهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ٣٠" قَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ مَخْلُوقَةً وَحْدَهَا وَالْأَرْضُ مَخْلُوقَةً وحدها، ففتق من هذه سبع سموات، وَمِنْ هَذِهِ سَبْعَ أَرَضِينَ، خَلَقَ الْأَرْضَ الْعُلْيَا فَجَعَلَ سُكَّانَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَشَقَّ فِيهَا الْأَنْهَارَ وَأَنْبَتَ فِيهَا الْأَثْمَارَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْبِحَارَ وَسَمَّاهَا رعاء، عرضها مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ خَلَقَ الثَّانِيَةَ مِثْلَهَا فِي الْعَرْضِ وَالْغِلَظِ وَجَعَلَ فِيهَا أَقْوَامًا، أَفْوَاهُهُمْ كَأَفْوَاهِ الْكِلَابِ وَأَيْدِيهِمْ أَيْدِي النَّاسِ، وَآذَانُهُمْ آذَانُ الْبَقَرِ وَشُعُورُهُمْ شُعُورُ الْغَنَمِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ أَلْقَتْهُمُ الْأَرْضُ إِلَى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَاسْمُ تِلْكَ الْأَرْضِ الدَّكْمَاءُ، ثُمَّ خَلَقَ الْأَرْضَ الثَّالِثَةَ غِلَظُهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمِنْهَا هَوَاءٌ إِلَى الْأَرْضِ. الرَّابِعَةُ خَلَقَ فِيهَا ظُلْمَةً وَعَقَارِبَ لِأَهْلِ النَّارِ مِثْلَ الْبِغَالِ السُّودِ، وَلَهَا أَذْنَابٌ مِثْلُ أَذْنَابِ الْخَيْلِ الطِّوَالِ، يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَتُسَلَّطُ عَلَى بَنِي آدَمَ. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ الخامسة [مثلها [[زيادة يقتضيها السياق.]]] فِي الْغِلَظِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ فِيهَا سَلَاسِلُ وَأَغْلَالٌ وَقُيُودٌ لِأَهْلِ النَّارِ. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ السَّادِسَةَ وَاسْمُهَا مَادْ، فِيهَا حِجَارَةٌ سُودٌ بُهْمٌ، وَمِنْهَا خُلِقَتْ تُرْبَةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تُبْعَثُ تِلْكَ الْحِجَارَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ حَجَرٍ مِنْهَا كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَهِيَ مِنْ كِبْرِيتٍ تُعَلَّقُ فِي أَعْنَاقِ الْكُفَّارِ فَتَشْتَعِلُ حَتَّى تُحْرِقَ وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ﴾[[راجع ج ١٨ ص ١٩٤.]] [البقرة: ٢٤] ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ السَّابِعَةَ وَاسْمُهَا عَرَبِيَّةُ وفيها جهنم، فيها بابان اسم الواحد سجين و [اسم [[من ب وج وز وك.]]] الآخر الفلق [[من ب وج وز وك.]]، فَأَمَّا سِجِّينٌ فَهُوَ مَفْتُوحٌ وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي كِتَابُ الْكُفَّارِ، وَعَلَيْهِ يُعْرَضُ أَصْحَابُ الْمَائِدَةِ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ، وأما الفلق [[من ب وج وز وك.]] فَهُوَ مُغْلَقٌ لَا يُفْتَحُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ مَضَى فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ١ ص ٢٥٨ فما بعد.]] أَنَّهَا سَبْعَ أَرَضِينَ بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَسَيَأْتِي لَهُ فِي آخِرِ "الطَّلَاقِ" [[راجع ج ١٨ ص ١٧٤.]] زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلٌ ثَالِثٌ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِيمَا ذكر المهدوي: إن السموات كَانَتْ رَتْقًا لَا تُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ كَانَتْ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَفَتَقَ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾[[راجع ج ٢٠ ص ١٠.]] [الطارق: ١٢ - ١١]. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الطَّبَرِيُّ،، لِأَنَّ بَعْدَهُ: "وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ٣٠". قُلْتُ: وَبِهِ يَقَعُ الِاعْتِبَارُ مُشَاهَدَةً وَمُعَايَنَةً، وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، لِيَدُلَّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَعَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَقِيلَ: يَهُونُ عَلَيْهِمْ إِذَا يَغْضَبُو ... نَ سُخْطُ الْعِدَاةِ وَإِرْغَامُهَا وَرَتْقُ الْفُتُوقِ وَفَتْقُ الرُّتُو ... قِ وَنَقْضُ الْأُمُورِ وَإِبْرَامُهَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ٣٠ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أنه خلق كل شي مِنَ الْمَاءِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي- حِفْظُ حَيَاةِ كل شي بِالْمَاءِ. الثَّالِثُ- وَجَعَلْنَا مِنْ مَاءِ الصُّلْبِ كُلَّ شي حَيٍّ، قَالَهُ قُطْرُبٌ. "وَجَعَلْنا" بِمَعْنَى خَلَقْنَا. وَرَوَى أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي، وَقَرَّتْ عَيْنِي، أَنْبِئْنِي عن كل شي، قال: (كل شي خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ) الْحَدِيثَ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنْبِئْنِي عن كل شي" "أراد به عن كل شي خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ" وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا جواب المصطفى إياه حيث قال: (كل شي خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا. وَهَذَا احْتِجَاجٌ آخَرُ سِوَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كون السموات وَالْأَرْضِ رَتْقًا. وَقِيلَ: الْكُلُّ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى البعض كقوله: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾[[راجع ج ١٣ ص ١٨٤.]] [النمل: ٢٣] وقوله: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾[[راجع ج ١٦ ص ٢٠٥ فما بعد.]] [الأحقاف: ٢٥] والصحيح العموم، لقوله عليه السلام: (كل شي خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) ٣٠ أَيْ أَفَلَا يُصَدِّقُونَ بِمَا يُشَاهِدُونَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ، بَلْ لِمُكَوِّنٍ كَوَّنَهُ، وَمُدَبِّرٍ أَوْجَدَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُكَوِّنُ مُحْدَثًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ﴾ أَيْ جِبَالًا ثَوَابِتَ. (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أَيْ لِئَلَّا تَمِيدَ بِهِمْ، وَلَا تَتَحَرَّكَ لِيَتِمَّ الْقَرَارُ عَلَيْهَا، قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْمَعْنَى كَرَاهِيَةَ أَنْ تَمِيدَ. وَالْمَيْدُ التَّحَرُّكُ وَالدَّوَرَانُ. يُقَالُ: مَادَ رَأْسُهُ، أَيْ دَارَ. وَمَضَى فِي "النَّحْلِ" [[راجع ج ١٠ ص ٩٠ وص ١٠.]] مُسْتَوْفًى. (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً) يَعْنِي فِي الرَّوَاسِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْفِجَاجُ الْمَسَالِكُ. وَالْفَجُّ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَقِيلَ: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ فِجَاجًا أي مسالك، وهو اختيار الطبري، لقوله: (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي يهتدون إلى السير في الأرض. (سُبُلًا) تَفْسِيرُ الْفِجَاجِ، لِأَنَّ الْفَجَّ قَدْ يَكُونُ طَرِيقًا نَافِذًا مَسْلُوكًا وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَقِيلَ: لِيَهْتَدُوا بِالِاعْتِبَارِ بِهَا إِلَى دِينِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً﴾ أَيْ مَحْفُوظًا مِنْ أَنْ يَقَعَ وَيَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[[راجع ج ١٢ ص ٩٢ فما بعد.]] [الحج: ٦٥]. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا بِالنُّجُومِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ﴾[[راجع ج ١٠ ص ٩٠ وص ١٠.]] [الحجر: ١٧]. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنَ الْهَدْمِ وَالنَّقْضِ، وَعَنْ أَنْ يَبْلُغَهُ أَحَدٌ بِحِيلَةٍ. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِمَادٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَرْفُوعًا. وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي. (وَهُمْ) يَعْنِي الْكُفَّارَ (عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَجْعُولَةٌ فِيهَا، وَقَدْ أَضَافَ الْآيَاتِ إِلَى نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ، لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ لَهَا. بَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ غَفَلُوا عن النظر في السموات وَآيَاتِهَا، مِنْ لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَشَمْسِهَا وَقَمَرِهَا، وَأَفْلَاكِهَا وَرِيَاحِهَا وَسَحَابِهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْ نَظَرُوا وَاعْتَبَرُوا لَعَلِمُوا أَنَّ لها صانعا قادرا واحدا فيستحيل أن يكون له شريك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ﴾ ذَكَّرَهُمْ نِعْمَةً أُخْرَى: جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه لمعايشهم. (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أَيْ وَجَعَلَ الشَّمْسَ آيَةَ النَّهَارِ، وَالْقَمَرَ آيَةَ اللَّيْلِ، لِتُعْلَمَ الشُّهُورُ وَالسُّنُونَ وَالْحِسَابُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي "سُبْحَانَ" [[راجع ج ١٠ ص ٢٢٧ فما بعد.]] بَيَانُهُ. (كُلٌّ) يَعْنِي مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْكَوَاكِبِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أَيْ يَجْرُونَ وَيَسِيرُونَ بِسُرْعَةٍ كَالسَّابِحِ فِي الْمَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:" وَالسَّابِحاتِ [[راجع ج ١٩ ص ١٨٨.]] سَبْحاً "وَيُقَالُ لِلْفَرَسِ الَّذِي يَمُدُّ يَدَهُ فِي الْجَرْيِ سَابِحٌ. وَفِيهِ مِنَ النَّحْوِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: يُسَبِّحْنَ وَلَا تُسَبِّحُ، فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِفِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ وَجَعَلَهُنَّ فِي الطَّاعَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْقِلُ، أَخْبَرَ عَنْهُنَّ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ وَنَحْوَهُ قَالَ الْفَرَّاءُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" يُوسُفَ" [[راجع ج ٩ ص ١٢٢.]]. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّمَا قَالَ: "يَسْبَحُونَ" لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾[[راجع ج ١٧ ص ١٤٥.]] [القمر: ٤٤] وَلَمْ يَقُلْ مُنْتَصِرُونَ. وَقِيلَ: الْجَرْيُ لِلْفَلَكِ فَنُسِبَ إِلَيْهَا. وَالْأَصَحُّ أَنَّ السَّيَّارَةَ تَجْرِي فِي الْفَلَكِ، وهي سبعة أفلاك دون السموات الْمُطْبِقَةِ، الَّتِي هِيَ مَجَالُ الْمَلَائِكَةِ وَأَسْبَابُ الْمَلَكُوتِ، فَالْقَمَرُ فِي الْفَلَكِ الْأَدْنَى، ثُمَّ عُطَارِدُ، ثُمَّ الزُّهْرَةُ، ثُمَّ الشَّمْسُ، ثُمَّ الْمَرِّيخُ، ثُمَّ الْمُشْتَرِي ثُمَّ زُحَلُ، وَالثَّامِنُ فَلَكُ الْبُرُوجِ، وَالتَّاسِعُ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ. وَالْفَلَكُ وَاحِدُ أَفْلَاكِ النُّجُومِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَيَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى فُعْلٍ مِثْلَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ وَخَشَبٍ وَخُشْبٍ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الدَّوَرَانِ، وَمِنْهُ فَلْكَةُ الْمِغْزَلِ، لِاسْتِدَارَتِهَا. وَمِنْهُ قِيلَ: فَلَّكَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ تَفْلِيكًا، وَتَفَلَّكَ اسْتَدَارَ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تَرَكْتُ فَرَسِي كَأَنَّهُ يَدُورُ فِي فَلَكٍ. كَأَنَّهُ لِدَوَرَانِهِ شَبَّهَهُ بِفَلَكِ السَّمَاءِ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ النُّجُومُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَفْلَاكُ مَجَارِي النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. قَالَ: وَهِيَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَلَكُ اسْتِدَارَةٌ فِي السَّمَاءِ تَدُورُ بِالنُّجُومِ مَعَ ثُبُوتِ السَّمَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَلَكُ كَهَيْئَةِ حَدِيدِ الرَّحَى وَهُوَ قُطْبُهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَلَكُهَا مَجْرَاهَا وَسُرْعَةُ مَسِيرِهَا. وَقِيلَ: الْفَلَكُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَمَجْرَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فيه، والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب