لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ دَعَاوَى بَاطِلَةً حَكَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً"، وَقَوْلُهُ: "وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى " ، وَقَالُوا:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [[راجع ج ٦ ص ١٢٠.]] "أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ فَقَالَ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ:" إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ "يَعْنِي الْجَنَّةَ." فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ "فِي أَقْوَالِكُمْ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا، لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَيَزُولُ عَنْهُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا، فَأَحْجَمُوا عَنْ تَمَنِّي ذَلِكَ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ لِقُبْحِ أَعْمَالِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِكُفْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، وَحِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ الْحَقِّ: "وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" تَحْقِيقًا لِكَذِبِهِمْ. وَأَيْضًا لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَامَهُمْ [[في بعض نسخ الأصل: "مقاعدهم".]] مِنَ النَّارِ). وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ إِظْهَارِ التَّمَنِّي، وَقَصَرَهُمْ عَلَى الْإِمْسَاكِ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِنَبِيِّهِ ﷺ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي تَرْكِهِمُ التَّمَنِّي. وَحَكَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ" أَنَّ الْمُرَادَ ادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَكْذَبِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَّا وَمِنْكُمْ: فَمَا دَعَوْا لِعِلْمِهِمْ بِكَذِبِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّمَنِّي يَكُونُ بِاللِّسَانِ تَارَةً وَبِالْقَلْبِ أُخْرَى، فَمِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَنَّوْهُ بِقُلُوبِهِمْ؟ قِيلَ لَهُ: نَطَقَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ "وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً" وَلَوْ تَمَنَّوْهُ بِقُلُوبِهِمْ لَأَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ رَدًّا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَإِبْطَالًا لِحُجَّتِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿خالِصَةً﴾ نَصْبٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ حالًا، وَيَكُونُ "عِنْدَ اللَّهِ" فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. "أَبَداً" ظَرْفُ زَمَانٍ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ، وَهُوَ هُنَا مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى الْمَوْتِ. و "ما" فِي قَوْلِهِ "بِما" بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ قَدَّمَتْهُ، وَتَكُونُ مَصْدَرِيَّةً وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عائد. و "أَيْدِيهِمْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، حُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ الْيَاءِ لِثِقَلِهَا مَعَ الْكَسْرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ حَرَّكْتَهَا، لِأَنَّ النَّصْبَ خَفِيفٌ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا فِي الشِّعْرِ. "وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.
{"ayahs_start":94,"ayahs":["قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةࣰ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا۟ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ","وَلَن یَتَمَنَّوۡهُ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیهِمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِینَ"],"ayah":"وَلَن یَتَمَنَّوۡهُ أَبَدَۢا بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیهِمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِینَ"}