الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِالْمَنِّ وَالْأَذى﴾ قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ وَحِرْمَانِ الثَّوَابِ بِالْإِبْطَالِ، وَالْمُرَادُ الصَّدَقَةُ الَّتِي يَمُنُّ بِهَا وَيُؤْذِي، لَا غَيْرُهَا. وَالْعَقِيدَةُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ وَلَا تُحْبِطُهَا، فَالْمَنُّ وَالْأَذَى فِي صَدَقَةٍ لَا يُبْطِلُ صَدَقَةً غَيْرَهَا. قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الصَّدَقَةَ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ يَمُنُّ أَوْ يُؤْذِي بِهَا فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ. وَقِيلَ: بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْمَلَكِ عَلَيْهَا أَمَارَةً فَهُوَ لَا يَكْتُبُهَا، وَهَذَا حَسَنٌ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَا يُمَنُّ بِهِ: يَدٌ سَوْدَاءُ. وَلِمَا يُعْطَى عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ: يَدٌ بَيْضَاءُ. وَلِمَا يُعْطَى عَنْ مَسْأَلَةٍ: يَدٌ خَضْرَاءُ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ سَقَطَ شُكْرُهُ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: وَصَاحِبٍ سَلَفَتْ مِنْهُ إِلَيَّ يَدٌ ... أَبْطَأَ عَلَيْهِ مُكَافَاتِي فَعَادَانِي لَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّ الدَّهْرَ حَارَبَنِي ... أَبْدَى النَّدَامَةَ فِيمَا كَانَ أَوْلَانِي وَقَالَ آخَرُ: أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حَسَنٍ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ إِذَا أَسْدَى بِمَنَّانِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ فَأَحْسَنَ: أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ حَسَنْ ... فِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَنْ صَنِيعَةٌ مَرْبُوبَةٌ ... خَالِيَةٌ مِنَ الْمِنَنِ وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل: وفعلت إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ! فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ، إِذَا أُحْصِيَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالِامْتِنَانَ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الشُّكْرَ وَيَمْحَقُ الْأَجْرَ- ثُمَّ تَلَا-" لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ". الثَّانِيَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: كَرِهَ مَالِكٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ الْوَاجِبَةَ أَقَارِبَهُ لِئَلَّا يَعْتَاضَ مِنْهُمُ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ، وَيُظْهِرَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ وَيُكَافِئُوهُ عَلَيْهَا فَلَا تَخْلُصُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَهَا الْأَجَانِبَ، وَاسْتَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ تَفْرِيقَهَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ عَدْلًا، لِئَلَّا تَحْبَطَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ بِالْخِدْمَةِ مِنَ الْمُعْطَى. وَهَذَا بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ السِّرِّ، لِأَنَّ ثَوَابَهَا إِذَا حَبِطَ سَلِمَ مِنَ الْوَعِيدِ وَصَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَالْوَاجِبُ إِذَا حَبِطَ ثَوَابُهُ تَوَجَّهَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ﴾ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ إِبْطَالَ "كَالَّذِي" فَهِيَ نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضِعَ الْحَالِ. مَثَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي يَمُنُّ وَيُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ بِالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْكَافِرِ الَّذِي يُنْفِقُ لِيُقَالَ جَوَّادٌ وَلِيُثْنَى عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الثَّنَاءِ. ثُمَّ مَثَّلَ هَذَا الْمُنْفِقَ أَيْضًا بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَيَظُنُّهُ الظَّانُّ أَرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِلٌ مِنَ الْمَطَرِ أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَابَ وَبَقِيَ صَلْدًا، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُرَائِي. فَالْمَنُّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءُ تَكْشِفُ عَنِ النِّيَّةِ فِي الْآخِرَةِ فَتَبْطُلُ الصَّدَقَةُ كَمَا يَكْشِفُ الْوَابِلُ عَنِ الصَّفْوَانِ، وَهُوَ الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْأَمْلَسُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ إِبْطَالُ الْفَضْلِ دُونَ الثَّوَابِ، فَالْقَاصِدُ بِنَفَقَتِهِ الرِّيَاءَ غَيْرُ مُثَابٍ كَالْكَافِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ. وَخَالَفَ صَاحِبُ الْمَنِّ وَالْأَذَى الْقَاصِدَ وَجْهَ اللَّهِ الْمُسْتَحِقَّ ثَوَابَهُ- وَإِنْ كَرَّرَ عَطَاءَهُ- وَأَبْطَلَ فَضْلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا يَبْطُلُ مِنْ ثَوَابِ صَدَقَتِهِ مِنْ وَقْتِ مَنِّهِ وَإِيذَائِهِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ وَيُضَاعَفُ، فَإِذَا مَنَّ وَآذَى انْقَطَعَ التَّضْعِيفُ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُرْبَى لِصَاحِبِهَا حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا خَالِصَةً عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ضُوعِفَتْ، فَإِذَا جَاءَ الْمَنُّ بِهَا وَالْأَذَى وُقِفَ بِهَا هُنَاكَ وَانْقَطَعَ زِيَادَةُ التَّضْعِيفِ عَنْهَا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ [[في هـ: أولى.]] والله أعلم. والصفوان جمع واحده صفوانة، قال الْأَخْفَشُ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَفْوَانٌ وَاحِدٌ، مِثْلُ حَجَرٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: صَفْوَانٌ وَاحِدٌ وَجَمْعُهُ صِفْوَانٌ وَصُفِيٌّ وَصِفِيٌّ، وَأَنْكَرَهُ الْمُبَرِّدُ وَقَالَ: إِنَّمَا صُفِيُّ جَمْعُ صَفَا كَقَفَا وَقُفِيٍّ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى الصَّفْوَاءُ وَالصَّفَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع المسألة الثانية ج ٢ ص ١٧٩.]]. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ "صَفَوَانٍ" بِتَحْرِيكِ الْفَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ. وَحَكَى قُطْرُبٌ صِفْوَانٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: صَفْوَانٌ وَصَفَوَانٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْجَمْعِ إِلَّا أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَخْرُجُ عَنْ بَابِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، فَأَمَّا مَا حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ فِي الْجَمْعِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى حَقِيقَةِ النَّظَرِ، وَلَكِنْ صِفْوَانٍ جَمْعُ صَفًا، وَصَفًا بِمَعْنَى صَفْوَانٍ، وَنَظِيرُهُ وَرَلٌ [[الورل (بالتحريك): دابة على خلقة الضب إلا أنها أعظم منه تكون في الرمال والصحارى، والعرب تستخبث الورل وتستقذره فلا تأكله.]] وَوِرْلَانٌ وَأَخٌ وَإِخْوَانٌ وَكَرًا وَكِرْوَانٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَنَا يَوْمٌ وَلِلْكِرْوَانِ يَوْمٌ ... تَطِيرُ الْبَائِسَاتُ وَلَا نَطِيرُ وَالضَّعِيفُ فِي الْعَرَبِيَّةِ كِرْوَانٌ جَمْعُ كَرَوَانٍ، وَصَفِيٌّ وَصِفِيٌّ جَمْعُ صَفًا مِثْلُ عَصًا. وَالْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ. وَقَدْ وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبِلُ، وَالْأَرْضُ مَوْبُولَةٌ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى:" فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا [[راجع ج ١٩ ص ٤٧.]] " أَيْ شَدِيدًا. وَضَرْبٌ وَبِيلٌ، وَعَذَابٌ وَبِيلٌ أَيْ شَدِيدٌ. وَالصَّلْدُ: الْأَمْلَسُ مِنَ الْحِجَارَةِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: صَلِدَ يَصْلَدُ صَلَدًا بِتَحْرِيكِ اللَّامِ فَهُوَ صَلْدٌ بِالْإِسْكَانِ، وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يُنْبِتُ شَيْئًا، وَمِنْهُ جَبِينٌ أَصْلَدُ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ لِرُؤْبَةَ: بَرَّاقُ أَصْلَادِ الْجَبِينِ الْأَجْلَهِ [[الجله: أشد من الجرح وهو ذهاب الشعر من مقدم الجبين.]] قَالَ النَّقَّاشُ: الْأَصْلَدُ الْأَجْرَدُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وَمَعْنَى (لَا يَقْدِرُونَ) يَعْنِي الْمُرَائِي وَالْكَافِرَ وَالْمَانَّ (عَلى شَيْءٍ) أَيْ على الانتفاع بثواب شي مِنْ إِنْفَاقِهِمْ وَهُوَ كَسْبُهُمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، إذ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّفَقَةِ بِالْكَسْبِ، لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهَا الْكَسْبَ. وَقِيلَ: ضَرَبَ هَذَا مَثَلًا لِلْمُرَائِي فِي إِبْطَالِ ثَوَابِهِ وَلِصَاحِبِ الْمَنِّ والأذى في إبطال فضله، ذكره الماوردي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب