الباحث القرآني
فيه ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى: (حافِظُوا) خطاب لجمع الْأُمَّةِ، وَالْآيَةُ أَمْرٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا بِجَمِيعِ شُرُوطِهَا. وَالْمُحَافَظَةُ هِيَ الْمُدَاوَمَةُ على الشيء والمواظبة عليه.
وَالْوُسْطَى تَأْنِيثُ الْأَوْسَطِ. وَوَسَطُ الشَّيْءِ خَيْرُهُ وَأَعْدَلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ [[تراجع المسألة الاولى ج ٢ ص ١٥٣.]]. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَمْدَحُ النَّبِيَّ ﷺ:
يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وَوَسَطَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَسِطهُمْ أَيْ صَارَ فِي وَسَطِهِمْ. وَأَفْرَدَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ وَقَدْ دَخَلَتْ قَبْلُ فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ تَشْرِيفًا لَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [[راجع ج ١٤ ص ١٢٦.]] "، وَقَوْلِهِ:" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [[راجع ج ١٧ ص ١٨٥.]] ". وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَاسِطِيُّ "وَالصَّلَاةَ الْوُسْطَى" بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ وَالْزَمُوا الصَّلَاةَ الْوُسْطَى: وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَلْوَانِيُّ. وَقَرَأَ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ "الْوُصْطَى" بِالصَّادِ لِمُجَاوَرَةِ الطَّاءِ لَهَا، لِأَنَّهُمَا مِنْ حَيِّزٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالصِّرَاطِ وَنَحْوِهِ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهَا الظُّهْرُ، لِأَنَّهَا وَسَطَ النَّهَارِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النَّهَارَ أَوَّلُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالظُّهْرِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ فِي الْإِسْلَامِ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا الْوُسْطَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وُسْطَى مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حِينَ أَمْلَتَا "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" بِالْوَاوِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى المسلمين، لأنها كانت تجئ فِي الْهَاجِرَةِ وَهُمْ قَدْ نَفَّهَتْهُمْ [[نفهه: أتعبه حتى انقطع.]] أَعْمَالُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ تَكُنْ تُصَلَّى صَلَاةٌ أَشَدُّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْهَا، فَنَزَلَتْ: "حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى " وَقَالَ: إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ، زَادَ الطَّيَالِسِيُّ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يصليها بالهجير.
الثَّانِي- أَنَّهَا الْعَصْرُ، لِأَنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْ نَهَارٍ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْ لَيْلٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا الِاحْتِجَاجِ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا قِيلَ لَهَا وُسْطَى لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَوَّلُ مَا فُرِضَ وَالْأُخْرَى الثَّانِيَةُ مِمَّا فُرِضَ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَثَرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجُمْهُورُ مِنَ النَّاسِ وَبِهِ أَقُولُ. وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ [[في ب وهـ: بأحاديث واردة.]] الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَأَنَصُّهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ" خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَتَيْنَا زِيَادَةً عَلَى هَذَا فِي الْقَبَسِ فِي شَرْحِ مُوَطَّإِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. الثَّالِثُ- إِنَّهَا الْمَغْرِبُ، قَالَهُ قَبِيصَةُ بْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ فِي جَمَاعَةٍ. وَالْحُجَّةُ لَهُمْ أَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرِهَا وَلَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ، وَإِنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا وَلَمْ يُعَجِّلْهَا، وَبَعْدَهَا صَلَاتَا جَهْرٍ وَقَبْلَهَا صَلَاتَا سِرٍّ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ لَمْ يُحِطَّهَا عَنْ مُسَافِرٍ وَلَا مُقِيمٍ فَتَحَ اللَّهُ بِهَا صَلَاةَ اللَّيْلِ وَخَتَمَ بِهَا صَلَاةَ النَّهَارِ فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ صَلَّى بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَ عِشْرِينَ سَنَةً- أَوْ قَالَ- أَرْبَعِينَ سَنَةً". الرَّابِعُ- صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ، وَتَجِيءُ فِي وَقْتِ نَوْمٍ وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا وَذَلِكَ شَاقٌّ فَوَقَعَ التَّأْكِيدُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. الْخَامِسُ- إِنَّهَا الصُّبْحُ، لِأَنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْ لَيْلٍ يُجْهَرُ فِيهِمَا وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْ نَهَارٍ يُسَرُّ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا شَاقٌّ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَفِي زَمَنِ الصَّيْفِ لِقِصَرِ اللَّيْلِ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أخرجه الْمُوَطَّأُ بَلَاغًا [[أي قال مالك في الموطأ إنه بلغه عنهما.]]، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ تَعْلِيقًا [[التعليق: رواية الحديث من غير سند.]]، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَالصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَرُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ مَعْرُوفٍ صَحِيحٍ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا الصُّبْحُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" يَعْنِي فِيهَا، وَلَا صَلَاةَ مَكْتُوبَةً فِيهَا قُنُوتٌ إِلَّا الصُّبْحَ. قَالَ أَبُو رَجَاءٍ: صَلَّى بِنَا ابْنُ عَبَّاسٍ صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِالْبَصْرَةِ فَقَنَتَ فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَنَتَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْقُنُوتِ وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ فِي "آلِ عِمْرَانَ" عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [[راجع ج ٤ ص ١٩٩.]] ". السَّادِسُ- صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهَا خُصَّتْ بِالْجَمْعِ لَهَا وَالْخُطْبَةِ فِيهَا وَجُعِلَتْ عِيدًا، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَكِّيٌّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَحْرِقْ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ". السَّابِعُ- إِنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ مَعًا. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ" الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ:" أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ [[قال النووي: "تضامون" بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء، ومن خففها ضم التاء، ومعنى المشدد أنكم لا تتضامون وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته، ومعنى المخفف أنه لا يلحقكم ضيم، وهو المشقة والتعب. وفى هـ: لا تضارون.]] فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا "يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ: ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ" وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها [[راجع ج ١١ ص ٢٦٠]] ". وروى عمارة بن رويبة قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ. وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ" كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَسُمِّيَتَا الْبَرْدَيْنِ لِأَنَّهُمَا يُفْعَلَانِ فِي وَقْتَيِ الْبَرْدِ. الثَّامِنُ- إِنَّهَا الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: اسْمَعُوا وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفَكُمْ حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ- يَعْنِي فِي جَمَاعَةٍ- الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى مَرَافِقِكُمْ وَرُكَبِكُمْ، قَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا- وَقَالَ- إِنَّهُمَا أَشَدُّ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ" وَجَعَلَ لِمُصَلِّي الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ قِيَامَ لَيْلَةٍ وَالْعَتَمَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا عَلَى عُثْمَانَ وَرَفَعَهُ مُسْلِمٌ، وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ قِيَامُ نِصْفِ لَيْلَةٍ وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ" وَهَذَا خِلَافُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ. التَّاسِعُ- أنها الصلوات الخمس بجملتها، قال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ" يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، ثُمَّ خُصَّ الْفَرْضُ بِالذِّكْرِ. الْعَاشِرُ- إِنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، قَالَهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خثيم، فَخَبَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ، وَكَمَا خَبَّأَ سَاعَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ الْمُسْتَجَابِ فِيهَا الدُّعَاءُ لِيَقُومُوا بِاللَّيْلِ فِي الظُّلُمَاتِ لِمُنَاجَاةِ عَالِمِ الْخَفِيَّاتِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ: "حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى " فَقَالَ رَجُلٌ: هِيَ إِذًا صَلَاةُ الْعَصْرِ؟ قَالَ الْبَرَاءُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ عُيِّنَتْ نُسِخَ تَعْيِينُهَا وَأُبْهِمَتْ فَارْتَفَعَ التَّعْيِينُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ مُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِهَا وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَنْ أَثْبَتَ "وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ حِينَ أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا قُرْآنًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالتَّفْسِيرِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عمرو ابن رَافِعٍ قَالَ: أَمَرَتْنِي حَفْصَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَأَمْلَتْ عَلَيَّ "حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى - وَهِيَ الْعَصْرُ- وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" وَقَالَتْ: هَكَذَا سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يقرءوها. فَقَوْلُهَا: "وَهِيَ الْعَصْرُ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَّرَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ هُوَ "وَهِيَ الْعَصْرُ". وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ حَفْصَةَ "وَصَلَاةِ الْعَصْرِ"، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ حَفْصَةَ أَيْضًا "صَلَاةِ الْعَصْرِ" بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَهَذَا الْخِلَافُ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْمَزِيدِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ وَصِحَّةِ مَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَيْهِ حُجَّةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى وَصَلَاةُ الْعَصْرِ جَعَلَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى غَيْرَ الْعَصْرِ، وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: شَغَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى ملا الله أجوافهم وقبورهم نارا" الحديث [[في ب وز: "ما لهم ملا الله ... " وفى ابن عطية والبحر: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وفى ابن عطية: "ملا الله قبورهم وبيوتهم ... " وفى البحر: "ملا الله أجوافهم ... ".]]. الرَّابِعَةُ- وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ أَنَّهَا تَنْقُصُ عَنْ سَبْعَةٍ وَتَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ فَرْدٌ إِلَّا الْخَمْسَةُ، وَالْأَزْوَاجُ لَا وَسَطَ لَهَا فَثَبَتَ أَنَّهَا خَمْسَةٌ. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ "هِيَ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ مَعْنَاهُ فِي صَلَاتِكُمْ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي معنى قوله "قانِتِينَ" فقال الشعبي: طائعين، وقال جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ قُنُوتٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الطَّاعَةُ. وَقَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. وَإِنَّ أَهْلَ كُلِّ دِينٍ فَهُمُ الْيَوْمَ يَقُومُونَ عَاصِينَ، فَقِيلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقُومُوا لِلَّهِ طَائِعِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى قَانِتِينَ خَاشِعِينَ. وَالْقُنُوتُ طُولُ الرُّكُوعِ وَالْخُشُوعِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجُنَاحِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ، وَقَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَقَرَأَ" أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [[راجع ج ١٥ ص ٢٣٨.]] ". وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ ... وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع المسألة الخامسة ج ٢ ص ٨٦.]]. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "قانِتِينَ" دَاعِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ [[رعل وذكوان: قبيلتان من سليم، وإنما دعا عليهم لقتلهم القراء.]]. قَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ دَعَا، وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ طَوَّلَ قِيَامَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: "قانِتِينَ" سَاكِتِينَ، دَلِيلُهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وغيره عن عبد الله ابن مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: "إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا". وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: "وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَ الْقُنُوتِ فِي اللُّغَةِ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ. وَمِنْ حَيْثُ كَانَ أَصْلُ الْقُنُوتِ فِي اللُّغَةِ الدَّوَامَ عَلَى الشَّيْءِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مُدِيمُ الطَّاعَةِ قَانِتًا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَطَالَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَطَالَ الْخُشُوعَ وَالسُّكُوتَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ فَاعِلُونَ لِلْقُنُوتِ. السَّادِسَةُ- قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ طُرًّا أَنَّ الْكَلَامَ عَامِدًا فِي الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي إِصْلَاحِ صَلَاتِهِ أَنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، إِلَّا مَا روى عن الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْجِسَامِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي النَّظَرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" وَقَالَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: "وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" الْحَدِيثَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ". وَلَيْسَ الْحَادِثُ الْجَسِيمُ الَّذِي يَجِبُ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ وَمِنْ أَجْلِهِ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ، فَمَنْ قَطَعَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَاهُ مِنَ الْفَضْلِ فِي إِحْيَاءِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَا كَانَ بِسَبِيلِ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ صَلَاتَهُ وَلَمْ يَبْنِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلَامِ سَاهِيًا فِيهَا، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا سَاهِيًا لَا يُفْسِدُهَا، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ تَعَمُّدُ الْكَلَامِ فِيهَا إذا كان في شأنها وإصلاحها، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَابْنِ الْقَاسِمِ. وَرَوَى سَحْنُونُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّى بِهِمُ الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ سَاهِيًا فَسَبَّحُوا بِهِ فَلَمْ يَفْقَهْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ مِمَّنْ هُوَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ: إِنَّكَ لَمْ تُتِمَّ فَأَتِمَّ صَلَاتَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ هَذَا؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: يُصَلِّي بِهِمُ الْإِمَامُ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ وَيُصَلُّونَ مَعَهُ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَلَا شي عَلَيْهِمْ، وَيَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ ذِي الْيَدَيْنِ [[ذو اليدين اسمه الخرباق، وقد كان يصلى خلف النبي ﷺ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ من اثنتين- وكانت رباعية- فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ ... إلخ.]]. هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي [كِتَابِهِ [[من ب وهـ.]]] الْمُدَوَّنَةِ وَرِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِيَّاهُ تَقَلَّدَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَاحْتَجَّ له في كتاب رده على محمد ابن الْحَسَنِ. وَذَكَرَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينَ قَالَ: أَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ ذِي الْيَدَيْنِ إِلَّا ابْنَ الْقَاسِمِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيهَا بِقَوْلِ مَالِكٍ، وَغَيْرُهُمْ يَأْبَوْنَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ عَرَفَ النَّاسُ صَلَاتَهُمْ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا أَعَادَهَا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ: أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا لِصَلَاةٍ كَانَ أو لغير ذلك، وهو قوله إبراهيم النخعي
وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَقَتَادَةَ. وَزَعَمَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالُوا: وَإِنْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ أَرْسَلَ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا أَرْسَلَ حَدِيثَ "مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ" قَالُوا: وَكَانَ كَثِيرَ الْإِرْسَالِ. وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: يُسْتَحَبُّ إِذَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَعُودَ لَهَا وَلَا يَبْنِيَ. قَالَ: وَقَالَ لَنَا مَالِكٌ إِنَّمَا تَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَكَلَّمَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الصَّلَاةَ قَصُرَتْ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ الْيَوْمَ. وَقَدْ رَوَى سَحْنُونُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رَجُلٍ صَلَّى وَحْدَهُ فَفَرَغَ عِنْدَ نَفْسِهِ مِنَ الْأَرْبَعِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ: إِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ إِلَّا ثَلَاثًا، فَالْتَفَتَ إِلَى آخَرَ فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يقوله هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَلَا أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: فَكَانُوا يُفَرِّقُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْإِمَامِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَالْمُنْفَرِدِ فَيُجِيزُونَ مِنَ الْكَلَامِ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ لِلْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ مَا لَا يُجِيزُونَهُ لِلْمُنْفَرِدِ، وَكَانَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ يَحْمِلُونَ جَوَابَ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُنْفَرِدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي الْإِمَامِ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ قَوْلِهِ فِي اسْتِعْمَالِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: مَنْ تَعَمَّدَ الْكَلَامَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ وَأَنَّهُ فِيهَا أَفْسَدَ صَلَاتَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا أَوْ تَكَلَّمَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَهَا عِنْدَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَبْنِي. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ الْأَثْرَمُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي صَلَاتِهِ لِإِصْلَاحِهَا لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَسَدَتْ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ. وَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ [[الخرقي (بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء): أبو القاسم عمر بن الحسين شيخ الحنابلة.]] عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبَهُ فِيمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، إِلَّا الْإِمَامَ خَاصَّةً فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ صَلَاتِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. وَاسْتُثْنَى سَحْنُونُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ فَوَقَعَ الْكَلَامُ هُنَاكَ لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ وَقَعَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ تَمَسُّكًا بِالْحَدِيثِ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى الْأَصْلِ الْكُلِّيِّ مِنْ تَعَدِّي الأحكام وَعُمُومِ الشَّرِيعَةِ، وَدَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ جَرَى الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّهْوُ أَيْضًا وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُمْ: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ" فَلِمَ لَمْ يُسَبِّحُوا؟ فَقَالَ: لَعَلَّ فِي ذَلِكَ الوقت لم يكن أمرهم بذلك، ولين كَانَ كَمَا ذَكَرْتَ فَلَمْ يُسَبِّحُوا، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ قَصُرَتْ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ قَالَ: وَخَرَجَ سَرَعَانُ [[السرعان (بفتح السين والراء ويجوز تسكين الراء): أوائل الناس الذين يتسابقون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة.]] النَّاسِ فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصلاة؟ فلما يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْكَلَامِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ: قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُمْ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّزَّالِ [[في ب وهـ: البراء بن عازب وليس بشيء. والصواب ما أثبتنا عن الجصاص ج ١ ص ٤٤٦ وفى كل الأصول: حديث البراء. وهو خطأ.]] بْنِ سَبْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ لَنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "أَنَا وَإِيَّاكُمْ كُنَّا نُدْعَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ" وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ صَلَّى بِنَا وَهُوَ إِذْ ذَاكَ كَافِرٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا، وَحَدِيثُ النَّزَّالِ [[في ب وهـ: البراء بن عازب وليس بشيء. والصواب ما أثبتنا عن الجصاص ج ١ ص ٤٤٦ وفى كل الأصول: حديث البراء. وهو خطأ.]] هُوَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْمِ وَسَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَا سَمِعَ. وَأَمَّا مَا ادَّعَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ النَّسْخِ وَالْإِرْسَالِ فَقَدْ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرُهُمْ وَأَبْطَلُوهُ، وَخَاصَّةً الْحَافِظَ أَبَا عُمَرَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ "التَّمْهِيدِ" وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرٍ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَصَحِبَ النَّبِيَّ ﷺ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ، وَشَهِدَ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ وَحَضَرَهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَبْلَ بَدْرٍ كَمَا زَعَمُوا، وَأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ فِي بَدْرٍ. قَالَ: وَحُضُورُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَوْمَ ذِي الْيَدَيْنِ مَحْفُوظٌ مِنْ رِوَايَةِ الْحُفَّاظِ الثِّقَاتِ، وَلَيْسَ تَقْصِيرُ مَنْ قَصَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَحَفِظَهُ وَذَكَرَهُ. الثَّامِنَةُ- الْقُنُوتُ: الْقِيَامُ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِهِ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ صَحِيحٍ قَادِرٍ عَلَيْهِ، مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ إِمَامًا. وَقَالَ ﷺ: "إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قائما فصلوا قياما" الحديث، أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ، وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ". وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُومِ الصَّحِيحِ يُصَلِّي قَاعِدًا خَلْفَ إِمَامٍ مَرِيضٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ، فَأَجَازَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ جُمْهُورُهُمْ، لِقَوْلِهِ ﷺ فِي الْإِمَامِ: "وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ" وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ آنِفًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ أَجَازَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ صَلَاةَ الْقَائِمِ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَرِيضِ لِأَنَّ كُلًّا يُؤَدِّي فَرْضَهُ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ صَلَّى فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ قَائِمًا يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا إِلَيْهِمْ بِالْجُلُوسِ، وَأَكْمَلَ صَلَاتَهُ بِهِمْ جَالِسًا وَهُمْ قِيَامٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ بَعْدَ سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْآخِرَ مِنْ فِعْلِهِ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الشَّافِعِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقُومَ [[في ح: "أن يقوم بجنبه".]] إِلَى جَنْبِهِ مِمَّنْ يُعْلِمُ النَّاسَ بِصَلَاتِهِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ غَرِيبَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ الْقُيَّامَ أَحَدٌ جالسا، فَإِنْ أَمَّهُمْ قَاعِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: "لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي قَاعِدًا". قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلِيلًا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ. قَالَ: وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ أَعَادَ الصَّلَاةَ، هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي مُصْعَبٍ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَعَلَيْهَا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ صَلَّى قَاعِدًا الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا أَنَّهُمْ يُعِيدُونَ فِي الْوَقْتِ خَاصَّةً، وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي هَذَا مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ الْمَشْهُورِ. وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ وَمَذْهَبِهِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُصْعَبٍ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا". قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، مُرْسِلٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ يَرْوِيهِ مُسْنَدًا فَكَيْفَ بِمَا يَرْوِيهِ مُرْسَلًا؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْمَرِيضُ جَالِسًا بِقَوْمٍ أصحاء ومرضى جُلُوسًا فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ، وَصَلَاةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ مِمَّنْ حُكْمُهُ الْقِيَامُ بَاطِلَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ. وَقَالُوا: لَوْ صَلَّى وَهُوَ يُومِئُ بِقَوْمٍ وَهُمْ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ لَمْ تُجْزِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَأَجْزَأَتِ الامام صلاته. وكان زفر يقول: تجزيهم صَلَاتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى فَرْضِهِمْ وَصَلَّى إِمَامُهُمْ عَلَى فَرْضِهِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. قُلْتُ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ أَنَّهَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَدْ رأيت لغيرهم خلال ذَلِكَ مِمَّنْ جَمَعَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا وَذَكَرَ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ مُلَخَّصًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَصِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ الصَّحِيحِ قَاعِدًا خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَرِيضِ جَائِزَةٌ، فَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ لَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كان فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ"؟ قَالُوا: بَلَى، نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ! قَالَ: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمِنْ طَاعَةِ اللَّهِ طَاعَتِي"؟ قَالُوا: بَلَى، نَشْهَدُ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَكَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمِنْ طَاعَةِ اللَّهِ طَاعَتُكَ. قَالَ: "فَإِنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَنْ تُطِيعُونِي وَمِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ فَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا". فِي طَرِيقِهِ عُقْبَةُ بن أبى الصهباء وهو ثقة، قال يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، وَهُوَ عِنْدِي ضَرْبٌ مِنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَى إِجَازَتِهِ، لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَرْبَعَةً أَفْتَوْا بِهِ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ [[قهد بالقاف وفى آخره دال.]]، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا هُبُوطَ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَأُعِيذُوا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ خِلَافٌ لِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، لَا بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ وَلَا مُنْقَطِعٍ، فَكَأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا كَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وإسحاق ابن إِبْرَاهِيمَ وَأَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَهَذِهِ السُّنَّةُ رَوَاهَا عَنِ الْمُصْطَفَى ﷺ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ. وَأَوَّلُ مَنْ أَبْطَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ قَاعِدًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُ جَالِسًا الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ صَاحِبُ النَّخَعِيِّ وَأَخَذَ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ حَمَّادٍ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ مَنْ بَعْدَهُ من أصحابه. وأعلى شي احتجوا به فيه شي رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا" وَهَذَا لَوْ صَحَّ إِسْنَادُهُ لَكَانَ مُرْسَلًا، وَالْمُرْسَلُ مِنَ الْخَبَرِ وَمَا لَمْ يُرْوَ سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَنَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ، وَلَا فِيمَنْ لَقِيتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، وَمَا أَتَيْتُهُ بِشَيْءٍ قَطُّ مِنْ رَأْيٍ إِلَّا جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيثٍ، وَزَعَمَ أَنَّ عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا، فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يُجَرِّحُ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ وَيُكَذِّبُهُ ضِدَّ قَوْلِ مَنِ انْتَحَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَذْهَبَهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَأَمَّا صلاة النَّبِيِّ ﷺ فِي مَرَضِهِ فَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ فِيهَا مُجْمَلَةً وَمُخْتَصَرَةً، وَبَعْضُهَا مُفَصَّلَةٌ مُبَيَّنَةٌ، فَفِي بَعْضِهَا: فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ [فَجَلَسَ [[في ب.]]] إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَالنَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْرٍ. وَفِي بَعْضِهَا: فَجَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا مُفَسَّرٌ. وَفِيهِ: فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَأَمَّا إِجْمَالُ هَذَا الْخَبَرِ فَإِنَّ عَائِشَةَ حَكَتْ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى هذا الموضع، وآخر القصة عند جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ عِنْدَ سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ مَوْهَبٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ فارس والروم يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا". قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ الْمُفَسَّرِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَعَدَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَتَحَوَّلَ أَبُو بَكْرٍ مَأْمُومًا يَقْتَدِي بِصَلَاتِهِ وَيُكَبِّرُ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ لِيَقْتَدُوا بِصَلَاتِهِ، أَمَرَهُمْ ﷺ حِينَئِذٍ بِالْقُعُودِ حِينَ رَآهُمْ قِيَامًا، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِالْقُعُودِ إِذَا صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا. وَقَدْ شَهِدَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَاتَهُ ﷺ حِينَ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَجُحِشَ [[جحش شقه: أي انخدش جلده.]] شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَكَانَ سُقُوطُهُ ﷺ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ آخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَشَهِدَ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي عِلَّتِهِ ﷺ فِي غَيْرِ هَذَا التَّارِيخِ فَأَدَّى كُلَّ خَبَرٍ بِلَفْظِهِ، أَلَا تَرَاهُ يَذْكُرُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ: رَفَعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ، وَتِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ عَلَى صِغَرِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ رَفْعُهُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي عِلَّتِهِ، فَلَمَّا صَحَّ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نَاسِخًا لِبَعْضٍ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا ﷺ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَكَانَ فِيهَا إِمَامًا وَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا آخِرَ عُمُرِهِ فَكَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا بَيْنَ بَرِيرَةَ وَثَوْبَةَ [[كذا في أكثر الأصول وفى بعضها: ثويبة. بالمثلثة. والصواب ما في شرح البخاري لابن حجر: بريرة ونوبه، بضم النون وسكون الواو ثم موحدة، ضبطه ابن ماكولا إلخ. فليراجع ج ٨ ص ١٠٨ طبع بولاق ففيه الخلاف والجمع. أما ثويبة مرضعته عليه السلام فلم يقل أحد بها ولا حد بها ولا هي أسلمت على المشهور.]]، وَكَانَ فِيهَا مَأْمُومًا، وَصَلَّى قَاعِدًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ الْقَوْمِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً لَا صَلَاةً وَاحِدَةً. وَإِنَّ فِي خبر عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ. يُرِيدُ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسَ وَالْآخَرُ عَلِيًّا. وَفِي خَبَرِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ بَرِيرَةَ وَثَوْبَةَ، إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى نَعْلَيْهِ تَخُطَّانِ فِي الْحَصَى وَأَنْظُرُ إِلَى بُطُونِ قَدَمَيْهِ، الْحَدِيثَ. فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَتَا صَلَاتَيْنِ لَا صَلَاةً وَاحِدَةً. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا محمد ابن إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى بِالنَّاسِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الصَّفِّ خَلْفَهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: خَالَفَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ فِي مَتْنِ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ فَجَعَلَ شُعْبَةُ النَّبِيَّ ﷺ مَأْمُومًا حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ، وَجَعَلَ زَائِدَةُ النَّبِيَّ ﷺ إِمَامًا حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ، وَهُمَا مُتْقِنَانِ حَافِظَانِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَضَادَّتَا فِي الظَّاهِرِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ نَاسِخًا لِأَمْرٍ مُطْلَقٍ مُتَقَدِّمٍ! فَمَنْ جَعَلَ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَتَرَكَ الْآخَرَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ثَبَتَ لَهُ عَلَى صِحَّتِهِ، سَوَّغَ لِخَصْمِهِ أَخْذَ مَا تَرَكَ مِنَ الْخَبَرَيْنِ وَتَرْكَ مَا أَخَذَ مِنْهُمَا. وَنَظِيرُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ السُّنَنِ خبر ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَخَبَرُ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَكَحَهَا وَهُمَا حَلَالَانِ فَتَضَادَّ الْخَبَرَانِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ عِنْدَنَا، فَجَعَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ رُوِيَا فِي نِكَاحِ مَيْمُونَةَ مُتَعَارِضَيْنِ، وَذَهَبُوا إِلَى خَبَرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ" فَأَخَذُوا بِهِ، إِذْ هُوَ يُوَافِقُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا فِي نِكَاحِ مَيْمُونَةَ، وَتَرَكُوا خَبَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَكَحَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ: تَضَادَّ الْخَبَرَانِ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي عِلَّتِهِ عَلَى حَسَبِ ما ذكرناه قبل، فيجب أن يجئ إِلَى الْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا فَيَأْخُذُ بِهِ، إِذْ هُوَ يُوَافِقُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ رُوِيَتَا فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي عِلَّتِهِ وَيَتْرُكُ الْخَبَرَ الْمُنْفَرِدَ عَنْهُمَا كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ مَيْمُونَةَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: زَعَمَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِمَّنْ كَانَ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: "وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا" أَرَادَ بِهِ وَإِذَا تَشَهَّدَ قَاعِدًا فَتَشَهَّدُوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ فَحَرَّفَ الْخَبَرَ عَنْ عُمُومِ مَا وَرَدَ الْخَبَرُ فِيهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ثَبَتَ له على تأويله.
{"ayah":"حَـٰفِظُوا۟ عَلَى ٱلصَّلَوَ ٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُوا۟ لِلَّهِ قَـٰنِتِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق