الباحث القرآني

فيه أربه مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ﴾ ٦٠ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ التَّارِيخِ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ فِيهِ مُوسَى غَيْرُهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهَا نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ ابْنَ عِمْرَانَ وَإِنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ مَنْشَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ وَكَانَ نبيا قبل موسى ابن عِمْرَانَ. وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفَتَاهُ: هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُ فِي "الْمَائِدَةِ" [[راجع ج ٦ ص ١٣٠ فما بعد.]] وَآخِرِ "يُوسُفَ" [[راجع ج ٩ ص ٢٧٠ فما بعد.]]. وَمَنْ قَالَ هُوَ ابْنُ مَنْشَا فَلَيْسَ الْفَتَى يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. (لَا أَبْرَحُ) ٦٠ أَيْ لَا أَزَالُ أَسِيرُ، قَالَ الشَّاعِرَ: [[هو خداش بن زهير يقول: لا أزال أجنب فرسي جوادا ويقال: إنه أراد قولا يستجاد في الثناء على قومي وفي (اللسان): (على الاعداء) يدل (بحمد الله).]] وَأَبْرَحُ مَا أَدَامَ اللَّهُ قَوْمِي ... بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَطِقًا مُجِيدَا وَقِيلَ: "لَا أَبْرَحُ ٦٠" لَا أُفَارِقُكَ. (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) ٦٠ أَيْ مُلْتَقَاهُمَا. قَالَ قَتَادَةُ: وَهُوَ بَحْرُ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ ذِرَاعٌ يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ مِنْ شِمَالٍ إِلَى جَنُوبٍ فِي أَرْضِ فَارِسَ مِنْ وَرَاءِ أَذْرَبِيجَانَ، فَالرُّكْنُ الَّذِي لِاجْتِمَاعِ الْبَحْرَيْنِ مِمَّا يَلِي بَرَّ الشَّامِ هُوَ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقِيلَ: هُمَا بَحْرُ الْأُرْدُنِّ وَبَحْرُ الْقُلْزُمِ. وَقِيلَ: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طنجة، قاله مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ بِأَفْرِيقِيَّةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْكُرُّ وَالرَّسُّ [[الكر والرس: نهران.]] بِأَرْمِينِيَّةَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ بَحْرُ الْأَنْدَلُسِ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَهَذَا مِمَّا يُذْكَرُ كَثِيرًا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا هُمَا مُوسَى وَالْخَضِرُ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يَصِحُّ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ إِنَّمَا وُسِمَ [[في ج وك: إنما رسم له بحرتا.]] لَهُ بَحْرُ مَاءٍ. وَسَبَبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَا خَرَّجَهُ الصَّحِيحَانُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (إِنَّ موسى عليه السلام قام خطيبا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ قَالَ تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَمَّا ظَهَرَ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ أَنْزَلَ قَوْمَهُ مِصْرَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدَّارُ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، فَخَطَبَ قَوْمَهُ فَذَكَّرَهُمْ مَا أَتَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ إِذْ نَجَّاهُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ، وَاسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَلَّمَ اللَّهُ نَبِيَّكُمْ تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَأَلْقَى عَلَيَّ [[في ى: عليه.]] مَحَبَّةً مِنْهُ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، فَجَعَلَكُمْ أَفْضَلَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَرَزَقَكُمُ الْعِزَّ بَعْدَ الذُّلِّ، وَالْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ، وَالتَّوْرَاةَ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ جُهَّالًا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: عَرَفْنَا الَّذِي تَقُولُ، فَهَلْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، فعتب الله عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ: أَنْ يَا مُوسَى وَمَا يُدْرِيكَ أَيْنَ [أَضَعُ [[الزيادة من كتب التفسير.]]] عِلْمِي؟ بَلَى! إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ أَعْلَمُ مِنْكَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ علماؤنا: وقوله فِي الْحَدِيثِ: (هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ) أَيْ بِأَحْكَامِ وَقَائِعٍ مُفَصَّلَةٍ، وَحُكْمِ نَوَازِلٍ مُعَيَّنَةٍ، لَا مُطْلَقًا بِدَلِيلِ قَوْلِ الْخَضِرِ لِمُوسَى: إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ أَنَا، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَعَلَى هَذَا فَيَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَعْلَمُ من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَعْلَمُهُ الْآخَرُ، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى هَذَا تَشَوَّقَتْ نَفْسُهُ الْفَاضِلَةُ، وَهِمَّتُهُ الْعَالِيَةُ، لِتَحْصِيلِ عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وَلِلِقَاءِ مَنْ قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَعَزَمَ فَسَأَلَ سُؤَالَ الذَّلِيلِ بِكَيْفَ [[في ج وك: فكيف.]] السَّبِيلُ، فَأُمِرَ بِالِارْتِحَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ مَعَكَ حُوتًا مَالِحًا فِي مِكْتَلٍ-- وَهُوَ الزِّنْبِيلُ- فَحَيْثُ يَحْيَا وَتَفْقِدُهُ فَثَمَّ السَّبِيلُ، فَانْطَلَقَ مَعَ فَتَاهُ لَمَّا وَاتَاهُ، مُجْتَهِدًا طَلَبًا قَائِلًا: "لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ٦٠". (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) ٦٠ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْقَافِ وَهُوَ الدَّهْرُ [[في البحر: الحقب السنون.]]، وَالْجَمْعُ أَحْقَابٍ. وَقَدْ تُسَكَّنُ قَافُهُ فَيُقَالُ حُقْبٌ. وَهُوَ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَيُقَالُ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْجَمْعُ حِقَابٌ. وَالْحِقْبَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَاحِدَةُ الحقب وهي السنون. الثَّانِيَةُ- فِي هَذَا مِنَ الْفِقْهِ رِحْلَةُ الْعَالِمِ فِي طَلَبِ الِازْدِيَادِ مِنَ الْعِلْمِ وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ بِالْخَادِمِ وَالصَّاحِبِ وَاغْتِنَامِ لِقَاءِ الْفُضَلَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وإن بعدت أقطارهم وذلك كان دَأْبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَبِسَبَبِ ذَلِكَ وَصَلَ الْمُرْتَحِلُونَ إِلَى الْحَظِّ الرَّاجِحِ وَحَصَلُوا عَلَى السَّعْيِ النَّاجِحِ، فَرَسَخَتْ لَهُمْ فِي الْعُلُومِ أَقْدَامٌ وَصَحَّ لَهُمْ مِنَ الذِّكْرِ وَالْأَجْرِ وَالْفَضْلِ أَفْضَلُ الْأَقْسَامِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حديث. الثالثة- قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) ٦٠ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أقوال: أحدهما- أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ يَخْدُمُهُ وَالْفَتَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الشَّابُّ وَلَمَّا كَانَ الْخَدَمَةُ أَكْثَرَ مَا يَكُونُونَ فِتْيَانًا قِيلَ لِلْخَادِمِ: فَتًى عَلَى جِهَةِ حُسْنِ الْأَدَبِ وَنَدَبَتِ الشَّرِيعَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَلَا أَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي) فَهَذَا نَدْبٌ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هذا قي (يُوسُفَ) [[راجع ج ٩ ص ١٩٤ وص ١٧٦ وص ٢٢٢.]]. وَالْفَتَى فِي الْآيَةِ هُوَ الْخَادِمُ وَهُوَ يوشع بن نون بن إفراثيم ابن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُقَالُ: هُوَ ابْنُ أُخْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ فَتَى مُوسَى لِأَنَّهُ لَزِمَهُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ حُرًّا، وَهَذَا مَعْنَى الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ فَتًى لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْفَتَى وَهُوَ الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) [[راجع ج ٩ ص ١٩٤ وص ١٧٦ وص ٢٢٢.]] وَقَالَ: (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) ٣٠ [[راجع ج ٩ ص ١٩٤ وص ١٧٦ وص ٢٢٢.]] قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَبْدٌ وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَفِي (التَّفْسِيرِ) أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا يُقْطَعُ بِهِ وَالتَّوَقُّفُ فِيهِ أسلم. الرابعة- قوله تعالى: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) ٦٠ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَالْحُقْبُ ثَمَانُونَ سَنَةً. مُجَاهِدٌ: سَبْعُونَ خَرِيفًا. قَتَادَةُ: زَمَانٌ، النَّحَّاسُ: الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْحُقْبَ وَالْحِقْبَةُ زَمَانٌ مِنَ الدَّهْرِ مُبْهَمٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ، كَمَا أَنَّ رَهْطًا وَقَوْمًا مُبْهَمٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ: وَجَمْعُهُ أحقاب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب