الباحث القرآني

فِيهِ سِتُّ مسائل: الاولى- قوله تعالى: (مِنَ اللَّيْلِ) "مِنَ" لِلتَّبْعِيضِ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ "فَتَهَجَّدْ" نَاسِقَةٌ عَلَى مُضْمَرٍ، أَيْ قُمْ فَتَهَجَّدْ. (بِهِ) أَيْ بِالْقُرْآنِ. وَالتَّهَجُّدُ مِنَ الْهُجُودِ وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. يُقَالُ: هَجَدَ نَامَ، وَهَجَدَ سَهِرَ، عَلَى الضِّدِّ. قال الشاعر: ألا زارت أهل مِنًى هُجُودُ ... وَلَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنًى يَعُودُ آخَرُ: أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودُ ... فَبَاتَتْ بِعَلَّاتِ [[العلة (هنا): ما يتعلل به، مثل التعلة.]] النَّوَالِ تَجُودُ يَعْنِي نِيَامًا. وَهَجَدَ وَتَهَجَّدَ بِمَعْنًى. وَهَجَّدْتُهُ أَيْ أَنَمْتُهُ، وَهَجَّدْتُهُ أَيْ أَيْقَظْتُهُ. وَالتَّهَجُّدُ التَّيَقُّظُ بَعْدَ رَقْدَةٍ، فَصَارَ اسْمًا لِلصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يَنْتَبِهُ لَهَا. فَالتَّهَجُّدُ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ. قَالَ مَعْنَاهُ الْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ وَغَيْرُهُمْ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عُمَرَ صَاحِبِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: أَيَحْسِبُ أَحَدُكُمْ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كُلِّهِ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ! إِنَّمَا التَّهَجُّدُ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ الصَّلَاةُ بَعْدَ رَقْدَةٍ. كَذَلِكَ كَانَتْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَقِيلَ: الْهُجُودُ النَّوْمُ. يُقَالُ: تَهَجَّدَ الرَّجُلُ إِذَا سَهِرَ، وَأَلْقَى الْهُجُودَ وَهُوَ النَّوْمُ. وَيُسَمَّى مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مُتَهَجِّدًا، لِأَنَّ الْمُتَهَجِّدَ هُوَ الَّذِي يُلْقِي الْهُجُودَ الَّذِي هُوَ النَّوْمُ عَنْ نَفْسِهِ. وَهَذَا الْفِعْلُ جَارٍ مَجْرَى تَحَوَّبَ وَتَحَرَّجَ وَتَأَثَّمَ وَتَحَنَّثَ وَتَقَذَّرَ وَتَنَجَّسَ، إِذَا أَلْقَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [[راجع ج ١٧ ص ٢١٧.]] "مَعْنَاهُ تَنْدَمُونَ، أَيْ تَطْرَحُونَ الْفُكَاهَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ، وَهِيَ انْبِسَاطُ النُّفُوسِ وَسُرُورُهَا. يُقَالُ: رَجُلٌ فَكِهٌ إِذَا كَانَ كَثِيرَ السُّرُورِ وَالضَّحِكِ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: وَوَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ اسْهَرْ بِهِ فِي صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ أَيْ كَرَامَةً لَكَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَخْصِيصِ النَّبِيِّ ﷺ بِالذِّكْرِ دُونَ أُمَّتِهِ، فَقِيلَ: كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ:" نافِلَةً لَكَ "أَيْ فَرِيضَةً زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَى الْأُمَّةِ. قُلْتُ: وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ بُعْدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- تَسْمِيَةُ الْفَرْضِ بِالنَّفْلِ، وَذَلِكَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ. الثَّانِي- قَوْلُهُ ﷺ:" خَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ"، وقوله تعالى: هن خمس وهن خمسون "ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" وَهَذَا نَصٌّ، فَكَيْفَ يُقَالُ: افترض عليه صلاة زائدة على خمس، هَذَا مَا لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ روى عنه عليه السلام: "" ثَلَاثٌ عَلَيَّ فَرِيضَةً وَلِأُمَّتِي تَطَوُّعٌ قِيَامُ اللَّيْلِ وَالْوِتْرُ وَالسِّوَاكُ". وَقِيلَ: كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا مِنْهُ وَكَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ وَاجِبَةً عَلَى الْكُلِّ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، عَلَى مَا يَأْتِي مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ" الْمُزَّمِّلِ [[راجع ج ١٩ ص ٣٢ فما بعد.]] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالتَّنَفُّلِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، لِأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ. فَهُوَ إِذَا تَطَوَّعَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدَّرَجَاتِ. وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَّةِ تَطَوُّعُهُمْ كَفَّارَاتٌ وَتَدَارُكٌ لِخَلَلٍ يَقَعُ فِي الْفَرْضِ، قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: عَطِيَّةٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنَالُ مِنَ السَّعَادَةِ عَطَاءٌ أَفْضَلَ مِنَ التَّوْفِيقِ فِي الْعِبَادَةِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً﴾ اخْتُلِفَ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- وَهُوَ أَصَحُّهَا- الشَّفَاعَةُ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا [[جثا (جمع جثوة كخطوة وخطا) أي جماعات.]] كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا تَقُولُ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَلِكَ يَوْمُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ ﷺ قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيُؤْتَى مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيُؤْتَى عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَأُوتَى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه فِي قَوْلِهِ: "عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً" سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: "هِيَ الشَّفَاعَةُ" قَالَ: هذا حديث حسن صحيح. إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ أَمْرُ الشَّفَاعَةِ الَّذِي يَتَدَافَعُهُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ فَيَشْفَعُ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ ليعجل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم، وهو الْخَاصَّةُ بِهِ ﷺ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ". قَالَ النَّقَّاشُ: لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ: الْعَامَّةُ، وَشَفَاعَةٌ فِي السب إِلَى الْجَنَّةِ، وَشَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا شَفَاعَتَانِ فَقَطْ: الْعَامَّةُ، وَشَفَاعَةٌ فِي إِخْرَاجِ الْمُذْنِبِينَ مِنَ النَّارِ. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَتَدَافَعُهَا الْأَنْبِيَاءُ بَلْ يَشْفَعُونَ وَيَشْفَعُ الْعُلَمَاءُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ: شَفَاعَاتُ نَبِيِّنَا ﷺ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَمْسُ شَفَاعَاتٍ: الْعَامَّةُ. وَالثَّانِيَةُ فِي إِدْخَالِ قَوْمٍ الْجَنَّةَ دُونَ حِسَابٍ. الثَّالِثَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ مُوَحِّدِي أُمَّتِهِ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ فَيَشْفَعُ فِيهَا نَبِيُّنَا ﷺ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ هِيَ الَّتِي أَنْكَرَتْهَا الْمُبْتَدِعَةُ: الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، فَمَنَعَتْهَا عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَهِيَ الِاسْتِحْقَاقُ الْعَقْلِيُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ. الرَّابِعَةُ فِيمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ فَيَخْرُجُونَ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا ﷺ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِخْوَانِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ. الْخَامِسَةُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا وَتَرْفِيعِهَا، وَهَذِهِ لَا تُنْكِرُهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا تنكر شفاعة الحشر الأول. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَعُرِفَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ سُؤَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ لِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَرَغْبَتُهُمْ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ تَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ ﷺ، لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُذْنِبِينَ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ كَمَا قَدَّمْنَا لِتَخْفِيفِ الْحِسَابِ وَزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ. ثُمَّ كُلُّ عَاقِلٍ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَفْوِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِعَمَلِهِ مُشْفِقٌ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَلَّا يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِأَنَّهَا لِأَصْحَابِ الذُّنُوبِ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ مَا عُرِفَ مِنْ دُعَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ والصلاة القائمة آت محمدا- ﷺ- الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ". الْقَوْلُ الثَّانِي- أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ إِعْطَاؤُهُ لِوَاءَ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا تَنَافُرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِيَدِهِ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَيَشْفَعُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي" الْحَدِيثَ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ- مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ، مِنْهَا مُجَاهِدٌ، أَنَّهَا قَالَتْ: الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ أَنْ يُجْلِسَ الله تعالى محمد ﷺ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَرَوَتْ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا. وَعَضَّدَ الطَّبَرِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ بِشَطَطٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا عَلَى تَلَطُّفٍ فِي الْمَعْنَى، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَلَا يُنْكَرُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرْوَى، وَالْعِلْمُ يَتَأَوَّلُهُ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَهُوَ عِنْدَنَا مُتَّهَمٌ، مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَتَحَدَّثُونَ بِهَذَا، مَنْ أَنْكَرَ جَوَازَهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ فَإِنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ مَهْجُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَحَدُهُمَا هَذَا وَالثَّانِي فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [[راجع ج ١٩ ص ١٠٥.]] " قال: تنتظر الثواب، ليس من النظر. قلت. ذكر هذا في باب ابْنُ شِهَابٍ فِي حَدِيثِ التَّنْزِيلِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يُجْلِسُهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَالْعَرْشَ قَائِمًا بِذَاتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهَا، بَلْ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلِيُعْرَفَ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ وَكَمَالُ قُدْرَتِهِ وَعِلْمُهُ بِكُلِّ أَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ، وَخَلَقَ لِنَفْسِهِ عَرْشًا اسْتَوَى عَلَيْهِ كَمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ صَارَ لَهُ مُمَاسًّا، أَوْ كَانَ الْعَرْشُ لَهُ مَكَانًا. قِيلَ: هُوَ الْآنَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَوَاءٌ فِي الْجَوَازِ أَقَعَدَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ لَيْسَ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَتَحْوِيلِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْحَالِ الَّتِي تَشْغَلُ الْعَرْشَ، بَلْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عرشه كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِلَا كَيْفٍ. وَلَيْسَ إِقْعَادُهُ مُحَمَّدًا عَلَى الْعَرْشِ مُوجِبًا لَهُ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْ مُخْرِجًا لَهُ عَنْ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ، بَلْ هُوَ رَفْعٌ لِمَحَلِّهِ وَتَشْرِيفٌ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْإِخْبَارِ: "مَعَهُ" فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ:" إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [[راجع ج ٧ ص ٣٥٦.]] "، وَ" رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [[راجع ج ٨ ص ٢٠٢.]] "." وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [[راجع ج ١٣ ص]] "وَنَحْوِ ذَلِكَ. كُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْحُظْوَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، لَا إِلَى الْمَكَانِ. الرَّابِعُ- إِخْرَاجُهُ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِهِ مَنْ يَخْرُجُ، قَالَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي (كِتَابِ التَّذْكِرَةِ) وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. السَّادِسَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِ الْقِيَامِ بِاللَّيْلِ سَبَبًا لِلْمَقَامِ الْمَحْمُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى يَجْعَلُ مَا شَاءَ مِنْ فِعْلِهِ سَبَبًا لِفَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ، أَوْ بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ الْخَلْوَةُ مَعَ الْبَارِئِ وَالْمُنَاجَاةُ دُونَ النَّاسِ، فَأُعْطِيَ الْخَلْوَةَ بِهِ وَمُنَاجَاتَهُ فِي قِيَامِهِ وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ. وَيَتَفَاضَلُ فِيهِ الْخَلْقُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ، فَأَجَلُّهُمْ فِيهِ دَرَجَةً مُحَمَّدٌ ﷺ، فَإِنَّهُ يُعْطَى مَا لَا يُعْطَى أَحَدٌ وَيَشْفَعُ ما لا يشفع أحد. و" عَسى "من الله عز وجل واجبة. و" مَقاماً "نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي مَقَامٍ أَوْ إِلَى مَقَامٍ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:" الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي". فَالْمَقَامُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ الْإِنْسَانُ لِلْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ كَالْمَقَامَاتِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب