الباحث القرآني

فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَنْعَامِ [[راجع ج ٧ ص، ١١١.]]، وَهِيَ هُنَا الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ. "لَعِبْرَةً" أَيْ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَالْعِبْرَةُ أَصْلُهَا تَمْثِيلُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لِتُعْرَفَ حَقِيقَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ، وَمِنْهُ" فَاعْتَبِرُوا [[راجع ج ١٨ ص ٥.]] ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الْعِبْرَةُ فِي الْأَنْعَامِ تَسْخِيرُهَا لِأَرْبَابِهَا وَطَاعَتُهَا لَهُمْ، وَتَمَرُّدُكَ على ربك وخلافك له في كل شي. ومن أعظم العبر برئ يَحْمِلُ مُذْنِبًا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿نُسْقِيكُمْ﴾ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (بِفَتْحِ النُّونِ) مِنْ سَقَى يَسْقِي. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (بِضَمِّ النُّونِ) مِنْ أَسْقَى يُسْقِي، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ وَأَهْلِ مَكَّةَ. قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ لَبِيَدٌ: سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ وَقِيلَ: يُقَالُ لِمَا كَانَ مِنْ يَدِكَ إِلَى فِيهِ سَقَيْتَهُ، فَإِذَا جَعَلْتَ لَهُ شَرَابًا أَوْ عَرَضْتَهُ لِأَنْ يَشْرَبَ بِفِيهِ أَوْ يَزْرَعَهُ قُلْتَ أَسْقَيْتُهُ، قَالَ ابْنُ عُزَيْزٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ١ ص، ٤١٨]]. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ "تُسْقِيكُمْ" بِالتَّاءِ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، يَعْنِي الانعام. وقرى بِالْيَاءِ، أَيْ يَسْقِيكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْقُرَّاءُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، فَفَتْحُ النُّونِ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَضَمُّهَا لُغَةُ حِمْيَرَ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِها﴾ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: "مِمَّا فِي بُطُونِهِ" عَلَى مَاذَا يَعُودُ. فَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ جَمْعُ الْمُؤَنَّثِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تُخْبِرُ عَنِ الْأَنْعَامِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا أَرَاهُ عَوَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَهُ وَلَا يَلِيقُ بِإِدْرَاكِهِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْجَمْعِ وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَيُقَالُ: هُوَ الْأَنْعَامُ وَهِيَ الْأَنْعَامُ، جَازَ عود الضمير بالتذكير، وَقَالَ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ مِمَّا فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَهُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمَذْكُورِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [[راجع ج ٩١ ص ٢١٣.]] " وَقَالَ الشَّاعِرُ: مِثْلَ الْفِرَاخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: "مِمَّا فِي بُطُونِهِ" أَيْ مِمَّا فِي بُطُونِ بَعْضِهِ، إِذِ الذُّكُورُ لَا أَلْبَانَ لَهَا، وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَنْعَامُ وَالنَّعَمُ وَاحِدٌ، وَالنَّعَمُ يُذَكَّرُ، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ: هَذَا نَعَمٌ وَارِدٌ، فَرَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَى لَفْظِ النَّعَمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَنْعَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا رَجَعَ التَّذْكِيرُ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالتَّأْنِيثُ إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَذَكَرَهُ هُنَا بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَنَّثَهُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ فَقَالَ:" نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها [[راجع ج ١٢ ص، ١١٨.]] " وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى انْتِظَامًا. حَسَنًا. وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْجَمْعِ أَكْثَرَ من رمل [[رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من الحجر اليمامة. (ياقوت).]] يبرين وتيهاء فلسطين. الرابعة- لاستنبط بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْجِلَّةِ وَهُوَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ مِنْ عَوْدِ هَذَا الضَّمِيرِ، أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُفِيدُ التحريم، وقال: إنما جئ بِهِ مُذَكَّرًا لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى ذِكْرِ النَّعَمِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلذَّكَرِ مَحْسُوبٌ، وَلِذَلِكَ قَضَى النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يحرم حين أنكرته عائشة [رضى الله عنها [[من ج.]]] فِي حَدِيثِ أَفْلَحَ أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ "فَلِلْمَرْأَةِ السَّقْيُ وَلِلرَّجُلِ اللِّقَاحُ" فَجَرَى الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بَيْنَهُمَا. وقد مضى قول فِي تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ فِي" النِّسَاءِ [[راجع ج ٥ ص ١١١.]] "وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً﴾ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِخُرُوجِ اللَّبَنِ خَالِصًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. وَالْفَرْثُ: الزِّبْلُ الَّذِي يَنْزِلُ إِلَى الْكَرِشِ، فَإِذَا خَرَجَ لَمْ يُسَمَّ فَرْثًا. يُقَالُ: أَفْرَثْتُ الْكَرِشَ إِذَا أَخْرَجْتُ مَا فِيهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ فِيهِ مَا فِي الْكَرِشِ وَيَكُونُ مِنْهُ الدَّمُ، ثُمَّ يُخَلَّصُ اللَّبَنُ مِنَ الدَّمِ، فَأَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ وَبَيْنَ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ. وَقَالَ ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِي كِرْشِهَا طَبَخَتْهُ فَكَانَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا وَأَعْلَاهُ دَمًا، وَالْكَبِدُ مُسَلَّطٌ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَتَقْسِمُ الدَّمَ وَتُمَيِّزهُ وَتُجْرِيهِ فِي الْعُرُوقِ، وَتُجْرِيَ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ فِي الْكِرْشِ،" حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ [[راجع ج ٧١ ص ١٢٨.]] النُّذُرُ". (خالِصاً) يُرِيدُ مِنْ حُمْرَةِ الدَّمِ وَقَذَارَةِ الْفَرْثِ وَقَدْ جَمَعَهُمَا وِعَاءٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: خَالِصًا بَيَاضُهُ. قَالَ النَّابِغَةُ: بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ [[الأردان: جمع ردن (بضم الراء وسكون الدال) وهو أصل الحكم.]] خُضْرِ الْمَنَاكِبِ أَيْ بِيضُ الْأَكْمَامِ. وَهَذِهِ قُدْرَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلْقَائِمِ عَلَى كل شي بِالْمَصْلَحَةِ. السَّادِسَةُ- قَالَ النَّقَّاشُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنِيَّ لَيْسَ بِنَجِسٍ. وَقَالَهُ أَيْضًا غَيْرُهُ وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ سَائِغًا خَالِصًا كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْمَنِيُّ عَلَى مَخْرَجِ الْبَوْلِ طَاهِرًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ هَذَا لَجَهْلٌ عَظِيمٌ وَأَخْذٌ شَنِيعٌ، اللَّبَنُ جَاءَ الْخَبَرُ عَنْهُ مَجِيءَ النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْقُدْرَةِ لِيَكُونَ عِبْرَةً، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ وَصْفَ الْخُلُوصِ وَاللَّذَّةِ، وَلَيْسَ الْمَنِيُّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ أَوْ مَقِيسًا عَلَيْهِ. قُلْتُ: قَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: وَأَيُّ مِنَّةٍ أَعْظَمُ وَأَرْفَعُ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ الْمُكَرَّمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ [[راجع ج ٢٠ ص ٤.]] "، وَقَالَ:" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [[راجع ص ١٤٢ من هذا الجزء.]] " وَهَذَا غَايَةٌ فِي الِامْتِنَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِخُرُوجِهِ فِي مَجْرَى الْبَوْلِ، قُلْنَا: هُوَ مَا أَرَدْنَاهُ، فَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ وَأَصْلُهُ طَاهِرٌ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَخْرَجَهُ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَخَاصَّةً الْمَرْأَةَ، فَإِنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ مِنْهَا وَمَخْرَجَ الْوَلَدِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ عَلَى مَا قاله العلماء. وقد تقدم في البقرة. فَإِنْ قِيلَ: أَصْلُهُ دَمٌ فَهُوَ نَجِسٌ، قُلْنَا يَنْتَقِضُ بِالْمِسْكِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ دَمٌ وَهُوَ طَاهِرٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَابِسًا بِظُفُرِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُفْرَكْ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وكان سعد ابن أَبِي وَقَّاصٍ يَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ كَالنُّخَامَةِ أَمِطْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ وَامْسَحْهُ بِخِرْقَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ. قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ غَسَلَتْهُ اسْتِقْذَارًا كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي تزال من الثوب لا لنجاسة، وَيَكُونُ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ نَجِسٌ. قَالَ مَالِكٌ: غَسْلُ الِاحْتِلَامِ مِنَ الثَّوْبِ أَمْرٌ وَاجِبٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُمْ غَسَلُوهُ مِنْ ثِيَابِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ. وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي نَجَاسَةِ الْمَنِيِّ وَطَهَارَتِهِ التَّابِعُونَ. السَّابِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَلْبَانِ مِنَ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ، فَأَمَّا لَبَنُ الْمَيْتَةِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ حَصَلَ فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ ضَرْعَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ وَاللَّبَنَ طَاهِرٌ فَإِذَا حُلِبَ صَارَ مَأْخُوذًا مِنْ وِعَاءٍ نَجِسٍ. فَأَمَّا لَبَنُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ [[أي المسلم.]] طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَهُوَ طَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ: يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ فَهُوَ نَجِسٌ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَغْتَذِي بِهِ كَمَا يَغْتَذِي مِنَ الْحَيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال: "الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ". وَلَمْ يَخُصَّ، وَقَدْ مَضَى فِي:" النِّسَاءِ [[راجع ج ٥ ص ١١١.]] ". الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سائِغاً لِلشَّارِبِينَ﴾ أَيْ لَذِيذًا هَيِّنًا لَا يُغَصُّ بِهِ مَنْ شَرِبَهُ. يُقَالُ: سَاغَ الشَّرَابُ يَسُوغُ سَوْغًا أَيْ سَهُلَ مَدْخَلُهُ فِي الْحَلْقِ، وَأَسَاغَهُ شَارَبُهُ، وَسُغْتُهُ أَنَا أُسِيغُهُ وَأَسُوغُهُ، يَتَعَدَّى، وَالْأَجْوَدُ أَسَغْتُهُ إِسَاغَةً. يُقَالُ: أَسِغْ لِي غُصَّتِي أَيْ أَمْهِلْنِي وَلَا تُعْجِلْنِي، وَقَالَ تَعَالَى:" يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [[راجع ج ٩ ص ٣٤٩.]] ". وَالسِّوَاغُ (بِكَسْرِ السِّينِ) مَا أَسَغْتَ بِهِ غُصَّتَكَ. يُقَالُ: الْمَاءُ سِوَاغُ الْغُصَصِ، ومنه قول الكميت: فكانت سواغا أن جيزت بِغُصَّةٍ وَرُوِيَ: أَنَّ اللَّبَنَ لَمْ يَشْرَقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ. التَّاسِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحَلَاوَةِ وَالْأَطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ وَتَنَاوُلِهَا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ الزُّهْدَ أَوْ يُبَاعِدُهُ، لَكِنْ إِذَا كَانَ مِنْ وَجْهِهِ وَمِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إِكْثَارٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْمَائِدَةِ [[راجع ج ٦ ص ٢٦٠ وما بعدها، وج ٧ ص ١٩١.]] " وَغَيْرِهَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِقَدَحِي هَذَا الشَّرَابَ كُلَّهُ: الْعَسَلَ وَالنَّبِيذَ وَاللَّبَنَ وَالْمَاءَ. وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ أَكْلَ الْفَالُوذَجِ [[الفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل. (عن الألفاظ الفارسية المعربة).]] وَاللَّبَنَ مِنَ الطَّعَامِ، وَأَبَاحَهُ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مَائِدَةٍ وَمَعَهُ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، فَأُتِيَ بِفَالُوذَجٍ فَامْتَنَعَ عَنْ أَكْلِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: كُلْ! فَإِنَّ عَلَيْكَ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. الْعَاشِرَةُ- رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِلَبَنٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شي يَجْزِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنَ". قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَغْتَذِي بِهِ الْإِنْسَانُ وَتَنْمَى بِهِ الْجُثَثُ وَالْأَبْدَانُ، فَهُوَ قُوتٌ خَلِيٌّ عَنِ الْمَفَاسِدِ بِهِ قِوَامُ الْأَجْسَامِ، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَةً لِجِبْرِيلَ عَلَى هِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ أُمَّةً، فَقَالَ فِي الصَّحِيحِ:" فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوِ اخْتَرْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ [[غوت: ضلت وفسدت.]] أُمَّتُكَ (. ثُمَّ إِنَّ فِي الدُّعَاءِ بِالزِّيَادَةِ مِنْهُ عَلَامَةَ الخصب وظهور الخيرات [وكثرة [[من ج.]]] والبركات، فهو مبارك كله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب