قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي رَفْعِ "مَثَلُ" فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: ارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: ارْتَفَعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ "تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، كَقَوْلِكَ: قَوْلِي يَقُومُ زَيْدٌ، فَقَوْلِي مُبْتَدَأٌ، وَيَقُومُ زَيْدٌ خَبَرُهُ، وَالْمَثَلُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ مَوْجُودٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾[[راجع ج ١٦ ص ١٩٢.]] [الفتح: ٢٩] وقال: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ﴾[[راجع ج ١٠ ص ١١٩.]] [النحل: ٦٠] أَيِ الصِّفَةُ الْعُلْيَا، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَقَالَ: لَمْ يُسْمَعْ مَثَلُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ الشَّبَهُ، أَلَا تَرَاهُ يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَمُتَصَرِّفَاتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَثَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ شَبَهِكَ، قَالَ: وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ جهة المعنى، لأن مثلا إِذَا كَانَ مَعْنَاهُ صِفَةً كَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي فِيهَا أَنْهَارٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْأَنْهَارَ فِي الْجَنَّةِ نَفْسِهَا لَا صِفَتُهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَثَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا مَا غَابَ عَنَّا بِمَا نَرَاهُ، وَالْمَعْنَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ فَقَالَ: لَا يَخْلُو الْمَثَلُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ الصِّفَةَ أَوِ الشَّبَهَ، وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الصِّفَةِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: صِفَةُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ، فَجَعَلْتَ الْجَنَّةَ خَبَرًا لَمْ يَسْتَقِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا تَكُونُ الصِّفَةَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا شَبَهُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّبَهَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَهُوَ حَدَثٌ، وَالْجَنَّةُ غَيْرُ حَدَثٍ، فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَثَلُ مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا بِالْمَثَلِ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[[راجع ج ١٦ ص ٨.]] [الشورى: ١١]: أَيْ لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ [[في ى: ليس كهو سيئ.]]. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ صِفَةُ جَنَّةٍ "تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ". وَقِيلَ مَعْنَاهُ: شَبَهُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِي الْحُسْنِ وَالنِّعْمَةِ وَالْخُلُودِ كَشَبَهِ النَّارِ فِي الْعَذَابِ وَالشِّدَّةِ وَالْخُلُودِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
(أُكُلُها دائِمٌ) لَا يَنْقَطِعُ، وَفِي الْخَبَرِ: "إِذَا أُخِذَتْ ثَمَرَةٌ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى" وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي "التَّذْكِرَةِ".
(وَظِلُّها) أَيْ وَظِلُّهَا كَذَلِكَ، فَحَذَفَ، أَيْ ثَمَرُهَا لَا يَنْقَطِعُ، وَظِلُّهَا لَا يَزُولُ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ يَزُولُ وَيَفْنَى.
(تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) أَيْ عَاقِبَةُ أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها.
{"ayah":"۞ مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۖ أُكُلُهَا دَاۤىِٕمࣱ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ۚ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٱلنَّارُ"}