قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ الْمَعْنَى: أَيِ اقْتَدَى بِأَخِيهِ، وَلَوِ اقْتَدَى بِنَا مَا سَرَقَ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِيَبْرَءُوا مِنْ فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمِّهِمْ، وَأَنَّهُ إِنْ سَرَقَ فَقَدْ جَذَبَهُ عِرْقُ أَخِيهِ السَّارِقِ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأَنْسَابِ يُشَاكِلُ فِي الْأَخْلَاقِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّرِقَةِ الَّتِي نَسَبُوا إِلَى يُوسُفَ، فَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَمَّةَ يُوسُفَ بِنْتَ إِسْحَاقَ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ صَارَتْ إِلَيْهَا مِنْطَقَةُ إِسْحَاقَ لِسِنِّهَا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالسِّنِّ، وَهَذَا مِمَّا نُسِخَ حُكْمُهُ بِشَرْعِنَا، وَكَانَ مَنْ سَرَقَ اسْتُعْبِدَ. وَكَانَتْ عَمَّةُ يُوسُفَ حَضَنَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ وَشَبَّ قَالَ لَهَا يَعْقُوبُ: سَلِّمِي يُوسُفَ إِلَيَّ، فَلَسْتُ أَقْدِرُ أَنْ يَغِيبَ عَنِّي سَاعَةً، فَوَلِعَتْ بِهِ، وَأَشْفَقَتْ مِنْ فِرَاقِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: دَعْهُ عِنْدِي أَيَّامًا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا يَعْقُوبُ عَمَدَتْ إِلَى مِنْطَقَةِ إِسْحَاقَ، فَحَزَّمَتْهَا عَلَى يُوسُفَ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: لَقَدْ فَقَدْتُ مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ، فَانْظُرُوا مَنْ أَخَذَهَا وَمَنْ أَصَابَهَا، فَالْتَمَسَتْ ثُمَّ قَالَتِ: اكْشِفُوا أَهْلَ الْبَيْتِ فَكَشَفُوا، فَوُجِدَتْ مَعَ يُوسُفَ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ لِي سِلْمٌ أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْتُ، ثُمَّ أَتَاهَا يَعْقُوبُ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ وَذَلِكَ، إِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ سِلْمٌ لَكِ، فَأَمْسَكَتْهُ حَتَّى مَاتَتْ، فَبِذَلِكَ عَيَّرَهُ إِخْوَتُهُ فِي قَوْلِهِمْ: "إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ" وَمِنْ هَاهُنَا تَعَلَّمَ يُوسُفُ وَضْعَ السِّقَايَةِ فِي رَحْلِ أَخِيهِ كَمَا عَمِلَتْ بِهِ عَمَّتُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّمَا أَمَرَتْهُ أَنْ يَسْرِقَ صَنَمًا كَانَ لِجَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ، فَسَرَقَهُ وَكَسَرَهُ وَأَلْقَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا تَغْيِيرًا للمنكر، فرموه بالسرقة وعيروه بها، وقاله قَتَادَةُ. وَفِي كِتَابِ الزَّجَّاجِ: أَنَّهُ كَانَ صَنَمُ ذَهَبٍ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: إِنَّهُ كَانَ مَعَ إِخْوَتِهِ عَلَى طَعَامٍ فَنَظَرَ إِلَى عِرْقٍ [[العرق (بالفتح) هنا القطعة من اللحم المطبوخ.]] فَخَبَّأَهُ فغيره بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَسْرِقُ مِنْ طَعَامِ المائدة للمساكين، حكاه ابن عسى. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهِ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ﴾ أَيْ أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ قَوْلَهُمْ: "إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ" قَالَهُ ابْنُ شَجَرَةَ وَابْنُ عِيسَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ قَوْلَهُ: "أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً" ثُمَّ جَهَرَ فَقَالَ: "وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ".
[قاله ابن عباس، أَيْ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا مِمَّنْ نَسَبْتُمُوهُ إِلَى هَذِهِ السَّرِقَةِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ "وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ" [[من ع.]]] أَيِ اللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَا قُلْتُمْ كَذِبٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلَّهِ رِضًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ﴾ خَاطَبُوهُ بِاسْمِ الْعَزِيزِ إِذْ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ بِعَزْلِ الْأَوَّلِ [[هو قطفير.]] أَوْ مَوْتِهِ. وَقَوْلُهُمْ: "إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً" أَيْ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَلَمْ يُرِيدُوا كِبَرَ السِّنِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَالِ الشَّيْخِ. "فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ" أَيْ عَبْدًا بَدَلَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مَجَازٌ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَخْذُ حُرٍّ يُسْتَرَقُّ بَدَلَ مَنْ قَدْ أَحْكَمَتِ السُّنَّةُ عِنْدَهُمْ رِقَّهُ، وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تَكْرَهُ فِعْلَهُ: اقْتُلْنِي وَلَا تَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ، وَلَكِنَّكَ مُبَالِغٌ فِي اسْتِنْزَالِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: "فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ" حَقِيقَةً، وَبَعِيدٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ [[قد مضى أنهم ليسوا بأنبياء على الصحيح.]] أَنْ يَرَوُا اسْتِرْقَاقَ حُرٍّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ طَرِيقَ الْحَمَالَةِ، أَيْ خُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ. حَتَّى يَنْصَرِفَ إِلَيْكَ صَاحِبُكَ، وَمَقْصِدُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَصِلَ بِنْيَامِينُ إِلَى أَبِيهِ، وَيَعْرِفُ يَعْقُوبُ جَلِيَّةَ الْأَمْرِ، فَمَنَعَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ، إِذِ الْحَمَالَةُ فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا- بِمَعْنَى إِحْضَارِ الْمَضْمُونِ فَقَطْ- جَائِزَةٌ مَعَ التَّرَاضِي، غَيْرُ لَازِمَةٍ إِذَا أَبَى الطَّالِبُ، وَأَمَّا الْحَمَالَةُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى أَنْ يَلْزَمَ الْحَمِيلَ مَا كَانَ يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ مِنْ عُقُوبَةٍ، فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا. وَفِي "الْوَاضِحَةِ": إِنَّ الْحَمَالَةَ فِي الْوَجْهِ فَقَطْ فِي [جَمِيعِ] [[من ع.]] الْحُدُودِ جَائِزَةٌ، إِلَّا فِي النَّفْسِ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ الْكَفَالَةِ فِي النَّفْسِ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَمَرَّةً ضَعَّفَهَا، وَمَرَّةً أَجَازَهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا وَصْفَهُ بِمَا رَأَوْا مِنْ إِحْسَانِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ مَعَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا: إِنَّا نَرَى لَكَ إِحْسَانًا عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْيَدِ إِنْ أَسْدَيْتَهَا إِلَيْنَا، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قالَ مَعاذَ اللَّهِ﴾ مَصْدَرٌ.
(أَنْ نَأْخُذَ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ مِنْ أَنْ نَأْخُذَ.
(إِلَّا مَنْ وَجَدْنا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ "نَأْخُذَ".
(مَتاعَنا عِنْدَهُ) أَيْ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ البرئ بِالْمُجْرِمِ وَنُخَالِفَ مَا تَعَاقَدْنَا عَلَيْهِ.
(إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي أن نأخذ غيره.
{"ayahs_start":77,"ayahs":["۞ قَالُوۤا۟ إِن یَسۡرِقۡ فَقَدۡ سَرَقَ أَخࣱ لَّهُۥ مِن قَبۡلُۚ فَأَسَرَّهَا یُوسُفُ فِی نَفۡسِهِۦ وَلَمۡ یُبۡدِهَا لَهُمۡۚ قَالَ أَنتُمۡ شَرࣱّ مَّكَانࣰاۖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَصِفُونَ","قَالُوا۟ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡعَزِیزُ إِنَّ لَهُۥۤ أَبࣰا شَیۡخࣰا كَبِیرࣰا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥۤۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ","قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأۡخُذَ إِلَّا مَن وَجَدۡنَا مَتَـٰعَنَا عِندَهُۥۤ إِنَّاۤ إِذࣰا لَّظَـٰلِمُونَ"],"ayah":"قَالُوا۟ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡعَزِیزُ إِنَّ لَهُۥۤ أَبࣰا شَیۡخࣰا كَبِیرࣰا فَخُذۡ أَحَدَنَا مَكَانَهُۥۤۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}