الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى﴾ أَيْ أَهْلَ الْقُرَى. (بِظُلْمٍ) أَيْ بِشِرْكٍ وَكُفْرٍ. (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) أَيْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي تَعَاطِي الْحُقُوقِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لِيُهْلِكَهُمْ بِالْكُفْرِ وَحْدَهُ حَتَّى يَنْضَافَ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِاللِّوَاطِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ أَقْرَبُ إِلَى عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ، وَإِنْ كَانَ عَذَابُ الشِّرْكِ فِي الْآخِرَةِ أَصْعَبَ. وَفِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ". وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ٦ ص ٣٤٢ فما بعدها.]]. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا كَانَ رَبّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُسْلِمُونَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا لَهُمْ وَنَقْصًا مِنْ حَقِّهِمْ، أَيْ مَا أَهْلَكَ قَوْمًا إِلَّا بَعْدَ إِعْذَارٍ وَإِنْذَارٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا كَانَ رَبُّكُ لِيُهْلِكَ أَحَدًا وَهُوَ يَظْلِمُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى نِهَايَةِ الصَّلَاحِ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مُلْكِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً﴾[[راجع ج ٨ ص ٣٤٦.]] [يونس: ٤٤]. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُهْلِكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ، أَيْ مُخْلِصُونَ فِي الْإِيمَانِ. فَالظُّلْمُ الْمَعَاصِي عَلَى هَذَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَهْلُ دِينٍ وَاحِدٍ، أَهْلُ ضَلَالَةٍ أَوْ أَهْلُ هُدًى. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أَيْ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ. وقيل: مختلفين في الرزق، فهذا غَنِيٌّ وَهَذَا فَقِيرٌ. "إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" بِالْقَنَاعَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ، وَعَطَاءٌ [وَيَمَانٌ [[من ع، ا، و، ى.]]]: الْإِشَارَةُ لِلِاخْتِلَافِ، أَيْ وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: وَلِرَحْمَتِهِ خَلَقَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: "وَلِذلِكَ" وَلَمْ يَقُلْ وَلِتِلْكَ، وَالرَّحْمَةُ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَأْنِيثَ الرَّحْمَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، فَحُمِلَتْ عَلَى مَعْنَى الْفَضْلِ. وَقِيلَ. الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ لِلِاخْتِلَافِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَدْ يشار ب "لِذلِكَ" إِلَى شَيْئَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ﴾[[راجع ج ١ ص ٤٤٨.]] [البقرة: ٦٨] وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ ذَيْنِكَ وَلَا تَيْنِكَ، وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً﴾[[راجع ج ١٣ ص ٧٢.]] [الفرقان: ٦٧] وَقَالَ: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا﴾[[راجع ج ١٠ ص ٣٤٣.]] [الإسراء: ١١٠] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾[[راجع ج ٨ ص ٣٥٣.]] [يونس: ٥٨] وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهُ يَعُمُّ، أَيْ وَلِمَا ذُكِرَ خَلَقَهُمْ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ، قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، أَيْ خَلَقَ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ لِلِاخْتِلَافِ، وَأَهْلَ الرَّحْمَةِ لِلرَّحْمَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ، فَرِيقًا يَرْحَمُهُ وَفَرِيقًا لَا يَرْحَمُهُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَفِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، الْمَعْنَى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ. مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ﴿ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود: ١٠٣] وَالْمَعْنَى: وَلِشُهُودِ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَلَقَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ متعلق بقوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥] أَيْ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ خَلَقَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ مَعْنَى "تَمَّتْ" ثَبَتَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ وَقَدَّرَ فِي أَزَلِهِ، وَتَمَامُ الْكَلِمَةِ امْتِنَاعُهَا عَنْ قَبُولِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) "مَنْ" لِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَيْ مِنْ جِنْسِ الْجِنَّةِ وَجِنْسِ النَّاسِ. "أَجْمَعِينَ" تَأْكِيدٌ، وَكَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَأُ نَارَهُ كَذَلِكَ أَخْبَرَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ [صَلَّى اللَّهُ [[من ع.]] عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] أَنَّهُ يَمْلَأُ جَنَّتَهُ بِقَوْلِهِ: "وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وقد تقدم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب