الباحث القرآني

تَفْسِيرُ سُورَةِ "قُرَيْشٍ" مَكِّيَّةٌ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَهِيَ أَرْبَعُ آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُتَّصِلَةٌ بِالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمَعْنَى. يَقُولُ: أَهْلَكْتُ أَصْحَابَ الْفِيلِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، أَيْ لِتَأْتَلِفَ، أَوْ لِتَتَّفِقَ قُرَيْشٌ، أَوْ لِكَيْ تَأْمَنَ قُرَيْشٌ فَتُؤَلِّفُ رِحْلَتَيْهَا. وَمِمَّنْ عَدَّ السُّورَتَيْنِ وَاحِدَةً أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَلَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا فِي مُصْحَفِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ لَنَا إِمَامٌ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، وَيَقْرَؤُهُمَا مَعًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ خَلْفَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقرأ في الاولى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين: ١] وفي الثانية ﴿ألم تر كيف﴾ [الفيل: ١] و ﴿لإيلاف قريش﴾ [قُرَيْشٍ: ١]. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هَذِهِ السُّورَةُ مُتَّصِلَةٌ بِالسُّورَةِ الْأُولَى [[الذي في كتاب الفراء:" قال بعضهم كانت موصولة ب (- ألم تر كيف فعل ربك) إلخ.]]، لِأَنَّهُ ذَكَّرَ أَهْلَ مَكَّةَ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا فَعَلَ بِالْحَبَشَةِ، ثُمَّ قَالَ: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ نِعْمَةً مِنَّا عَلَى قُرَيْشٍ. وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَخْرُجُ فِي تِجَارَتِهَا، فَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا وَلَا تُقْرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. يَقُولُونَ هُمْ أَهْلُ بَيْتِ الله عز وجل، حتى جاء صاحب الفيل لِيَهْدِمَ الْكَعْبَةَ، وَيَأْخُذَ حِجَارَتَهَا، فَيَبْنِيَ بِهَا بَيْتًا فِي الْيَمَنِ يَحُجُّ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَذَكَّرَهُمْ نِعْمَتَهُ أَيْ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، أَيْ لِيَأْلَفُوا الْخُرُوجَ وَلَا يجترئ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ. ذَكَرَهُ النحاس: حدثنا أحمد ابن شُعَيْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ- وَكَانَ ثِقَةً مِنْ خِيَارِ النَّاسِ- قَالَ حَدَّثَنِي خَطَّابُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ قَالَ: نِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. قَالَ: كَانُوا يَشْتُونَ بِمَكَّةَ، وَيَصِيفُونَ بِالطَّائِفِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ تَامًّا، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ أَثْنَاءَ السُّورَةِ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمُتَّصِلَةٍ، لِأَنَّ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْقِضَاءِ السُّورَةِ وَافْتِتَاحِ الْأُخْرَى، وَأَنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بقوله تعالى: لْيَعْبُدُوا أَيْ فَلْيَعْبُدُوا هَؤُلَاءِ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، لِإِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ لِلِامْتِيَارِ [[أي لجلب الطعام.]]. وَكَذَا قَالَ الْخَلِيلُ: لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً، كَأَنَّهُ قَالَ: أَلَّفَ اللَّهُ قُرَيْشًا إِيلَافًا فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. وَعَمِلَ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِيمَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ غَيْرُ عَاطِفَةٍ، كَقَوْلِكَ: زَيْدًا فَاضْرِبْ. وَقِيلَ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ لَامُ التَّعَجُّبِ، أَيِ اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: بمعنى إلى. وقرا ابن عامر: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ مَهْمُوزًا مُخْتَلَسًا بِلَا يَاءٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ "لِيلَافِ" بِلَا هَمْزٍ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ. الْبَاقُونَ لِإِيلافِ بِالْيَاءِ مَهْمُوزًا مُشْبَعًا، مِنْ آلَفْتُ أؤلف إِيلَافًا. قَالَ الشَّاعِرُ: الْمُنْعِمِينَ إِذَا النُّجُومُ تَغَيَّرَتْ ... وَالظَّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ وَيُقَالُ: أَلِفْتُهُ إِلْفًا وَإِلَافًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا: "لِإِلْفِ قُرَيْشٍ" وَقَدْ جَمَعَهُمَا مَنْ قَالَ: زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ [[كذا في نسخ الأصل بالرفع على الخبر. وفي اللسان وشرح القاموس: (قريشا) بالنصب على البدل.]] ... لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وفلان قد ألف هذا الموضع (بالكسر) يألفه إِلْفًا، وَآلَفَهُ إِيَّاهُ غَيْرُهُ. وَيُقَالُ أَيْضًا: آلَفْتُ الموضع أولفه إيلافا. وكذلك: آلفت الموضع أولفه مؤالفة وإلافا، فَصَارَ صُورَةُ أَفْعَلَ وَفَاعَلَ فِي الْمَاضِي وَاحِدَةً. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ "لِيَأْلَفَ" بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى الْأَمْرِ. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفَتْحُ لَامِ الْأَمْرِ لُغَةٌ حَكَاهَا ابْنُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ عِكْرِمَةُ يَعِيبُ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ لِإِيلافِ. وَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ "إِلَافِ قُرَيْشٍ" اسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ أَبِي طَالِبٍ يُوصِي أَخَاهُ أَبَا لَهَبٍ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: فَلَا تُتْرَكَنْهُ مَا حَيِيتَ لِمُعْظَمٍ ... وَكُنْ رَجُلًا ذَا نَجْدَةٍ وَعَفَافِ تَذُودُ الْعِدَا عَنْ عُصْبَةٍ هَاشِمِيَّةٍ ... إِلَافُهُمُ فِي النَّاسِ خَيْرُ إِلَافِ وَأَمَّا قُرَيْشٌ فَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنُ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ دُونَ بَنِي كِنَانَةَ وَمَنْ فَوْقَهُ. وَرُبَّمَا قَالُوا: قريشي، وهو القياس، قال الشاعر: بكل قريشي عليه مهابة» فَإِنْ أَرَدْتَ بِقُرَيْشٍ الْحَيَّ صَرَفْتَهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ به القبيلة لم تصرفه، قال الشاعر: وَكَفَى قُرَيْشَ الْمَعْضِلَاتِ وَسَادَهَا [[هذا عجز بيت لعدي بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك. وصدره كما في اللسان: غلب المساميح الوليد سماحة]] وَالتَّقْرِيشُ: الِاكْتِسَابُ، وَتَقَرَّشُوا أَيْ تَجَمَّعُوا. وَقَدْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، فَجَمَعَهُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فِي الْحَرَمِ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ مَسْكَنًا. قَالَ الشَّاعِرُ: أَبُونَا قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا ... بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَلِدْهُ فِهْرٌ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: [إِنَّا وَلَدُ النَّضْرِ ابن كنانة لا نقفوا [[قفا فلان فلانا: إذا قذفه بما ليس فيه أي لا نتهمها ولا نقذفها، وقيل: معناه لا نترك النسب إلى الآباء، وننتسب إلى الأمهات.]] أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا]. وَقَالَ وَائِلَةُ بن الأسقع: قال النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ]. صَحِيحٌ ثَابِتٌ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ قُرَيْشًا عَلَى أَقْوَالٍ: أحدهما: لِتَجَمُّعِهِمْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَالتَّقَرُّشُ: التَّجَمُّعُ وَالِالْتِئَامُ. قَالَ أَبُو جِلْدَةَ الْيَشْكُرِيُّ: [[ضبطه في التاج بكسر الجيم.]] إِخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِهِمْ وَقَدِيمِ الثَّانِي-: لِأَنَّهُمْ كَانُوا تُجَّارًا يَأْكُلُونَ مِنْ مَكَاسِبِهِمْ. وَالتَّقَرُّشُ: التَّكَسُّبُ. وَقَدْ قَرَشَ يَقْرُشُ قَرْشًا: إِذَا كَسَبَ وَجَمَعَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَبِهِ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ. الثَّالِثُ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُفَتِّشُونَ الْحَاجَّ [[الحاج: جماعة الحجاج. والخلة (بالفتح): الحاجة والفقر.]] مِنْ ذِي الْخَلَّةِ، فَيَسُدُّونَ خَلَّتَهُ. وَالْقَرْشُ: التَّفْتِيشُ. قَالَ الشَّاعِرُ: أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا ... عِنْدَ عَمْرٍو فَهَلْ لَهُ إِبْقَاءُ [[البيت للحارث بن حلزة اليشكري في معلقته. وروايته كما في شرح المعلقات: أيها الناطق المرقش عنا ... عند عمرو وهل لذاك بقاء قال التبريزي: (المرقش: المزين القول بالباطل ليقبل منه الملك باطله. ويقال إنه يخاطب بها عمرو بن كلثوم. ومعنى (وهل لذاك بقاء): (إن الباطل لا يبقى). وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه.]] الرَّابِعُ: مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ لِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا؟ فَقَالَ: لِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَقْوَى دَوَابِّهِ يُقَالُ لَهَا الْقِرْشُ، تَأْكُلُ وَلَا تُؤْكَلُ، وَتَعْلُو وَلَا تُعْلَى. وَأَنْشَدَ قَوْلَ تُبَّعٍ: وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْ ... - رَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تَأْكُلُ الرَّثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْ ... - رُكُ فِيهَا لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشَا هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا [[أي سريعا.]] وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا [[الخموش: (جمع الخمش) وهو مثل الخدش يكون في البدن والوجه.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب