الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ﴾ "آتَيْتَ" أَيْ أَعْطَيْتَ. (زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أَيْ مَالَ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُمْ مِنْ فُسْطَاطِ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ جِبَالٌ فِيهَا مَعَادِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالزَّبَرْجَدِ والزمرد والياقوت. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّامِ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا- وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ- أَنَّهَا لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ، وَفِي الْخَبَرِ (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَكًا يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ) أَيْ لَمَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ إِلَى الضَّلَالِ صَارَ كَأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ لِيُضِلُّوا. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ أَيْ أَعْطَيْتَهُمْ لِكَيْ يَضِلُّوا وَيَبْطَرُوا وَيَتَكَبَّرُوا. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ أَجْلٍ، أَيْ أَعْطَيْتَهُمْ لِأَجْلِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ فَلَمْ يَخَافُوا أَنْ تُعْرِضَ عَنْهُمْ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمَعْنَى: أَعْطَيْتَهُمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَضِلُّوا، فَحُذِفَتْ لَا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [[راجع ج ٦ ص ٢٨ فما بعد.]]. وَالْمَعْنَى: لِأَنْ لَا تَضِلُّوا. قَالَ النَّحَّاسُ: ظَاهِرُ هَذَا الْجَوَابِ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَحْذِفُ "لَا" إِلَّا مَعَ أَنْ، فَمَوَّهَ صَاحِبُ هَذَا الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "أَنْ تَضِلُّوا". وَقِيلَ: اللَّامُ لِلدُّعَاءِ، أَيِ ابْتَلِهِمْ بِالضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِكَ، لِأَنَّ بَعْدَهُ: "اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ". وَقِيلَ: الْفِعْلُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْ إِضْلَالُهُمْ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ". قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ: "لِيُضِلُّوا" بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِضْلَالِ، وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ﴾ أَيْ عاقبهم عل كُفْرِهِمْ بِإِهْلَاكِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: طَمْسُ الشَّيْءِ إِذْهَابُهُ عَنْ صُورَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدَرَاهِمُهُمْ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَتِهَا صِحَاحًا وَأَثْلَاثًا وَأَنْصَافًا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعْدِنٌ إِلَّا طَمَسَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ بَعْدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ: أَهْلَكَهَا حَتَّى لَا تُرَى، يُقَالُ: عَيْنٌ مَطْمُوسَةٌ، وَطُمِسَ الْمَوْضِعُ إِذَا عَفَا وَدَرَسَ. وَقَالَ ابْنُ زيد: صارت دنانير هم ودراهمهم وفرشهم وكل شي لهم حجارة. محمد ابن كَعْبٍ: وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكُونُ مَعَ أَهْلِهِ فِي فِرَاشِهِ وَقَدْ صَارَا حَجَرَيْنِ، قَالَ: وَسَأَلَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَدَعَا بِخَرِيطَةٍ [[الخريطة: هنة مثل الكيس تكون من الخرق والأدم تشرج على ما فيها. اللسان.]] أُصِيبَتْ بِمِصْرَ فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْفَوَاكِهَ وَالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنَّهَا لَحِجَارَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَتْ إِحْدَى الْآيَاتِ التِّسْعِ. (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ امْنَعْهُمُ الْإِيمَانَ. وَقِيلَ: قَسِّهَا وَاطْبَعْ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَنْشَرِحَ لِلْإِيمَانِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. "فَلا يُؤْمِنُوا" قِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "لِيُضِلُّوا" أَيْ آتَيْتَهُمُ النِّعَمَ لِيُضِلُّوا وَلَا يُؤْمِنُوا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْمُبَرِّدُ. وَعَلَى هَذَا لَا يكون فيه من معنى الدعاء شي. وَقَوْلُهُ: (رَبَّنَا اطْمِسْ، وَاشْدُدْ) كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ دُعَاءٌ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ عِنْدَهُمْ، أَيِ اللَّهُمَّ فَلَا يُؤْمِنُوا، أَيْ فَلَا آمَنُوا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ أَيْ لَا انْبَسَطَ. وَمَنْ قَالَ "لِيُضِلُّوا" دُعَاءٌ- أَيِ ابْتَلِهِمْ بِالضَّلَالِ- قَالَ: عَطَفَ عَلَيْهِ "فَلا يُؤْمِنُوا". وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِأَنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا. وَهَذَا قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ أَيْضًا، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ: يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا فَعَلَى هَذَا حُذِفَتِ النُّونُ لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ. (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْغَرَقُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ النَّاسِ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: كَيْفَ دَعَا عَلَيْهِمْ وَحُكْمُ الرُّسُلِ اسْتِدْعَاءُ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ نَبِيٌّ عَلَى قَوْمِهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ، وَإِعْلَامٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾[[راجع ج ٩ ص ٢٩.]] [هود: ٣٦] وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: "رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً" [[راجع ج ١٨ ص ٣١٢.]] [الآية [[من ع.]]] [نوح: ٢٦]. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب