الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الفَضائِلَ، كانَتِ النَّتِيجَةُ أنَّها مُتَّصِفَةٌ بِالسَّلامَةِ التّامَّةِ كاتِّصافِ الجَنَّةِ - الَّتِي هي سَبَبُها - بِها، فَكانَ ذَلِكَ أدُلُّ عَلى عَظَمَتِها فَقالَ تَعالى: ﴿سَلامٌ﴾ أيْ عَظِيمٌ جِدًّا ﴿هِيَ﴾ أيْ ما هي إلّا سَلامَةٌ وخَيْرٌ لَيْسَ فِيها شَرٌّ، ولا يَزالُ ذَلِكَ السَّلامُ والبِرْكَةُ فِيها ﴿حَتّى﴾ أيْ إلى ﴿مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ أيْ طُلُوعِهِ ووَقْتِ طُلُوعِهِ ومَوْضِعِ طُلُوعِهِ، لا يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ كَما في غَيْرِ لَيْلَتِها، فَلا تَطْلُعُ الشَّمْسُ في صَبِيحَتِها بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطانِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وذَلِكَ سِرُّ قِراءَةِ الكِسائِيِّ [بِالكَسْرِ] - واللَّهُ أعْلَمُ، واخْتِيرَ التَّعْبِيرُ بـ ”حَتّى“ دُونَ ”إلى“ لِيَفْهَمَ أنَّ لَمّا بَعْدَها حُكْمُ ما قَبْلَها، فَيَكُونُ المَطْلَعُ في حُكْمِ اللَّيْلَةِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَنْزِلُ لَيْلَةَ القَدْرِ في كَوْكَبَةٍ مِنَ المَلائِكَةِ ومَعَهُ لِواءٌ أخْضَرُ يُرَكِّزُهُ (p-١٨٢)فَوْقَ الكَعْبَةِ، ثُمَّ يُفَرِّقُ المَلائِكَةَ في النّاسِ حَتّى يُسَلِّمُوا عَلى كُلِّ قائِمٍ وقاعِدٍ وذاكِرٍ وراكِعٍ وساجِدٍ إلى أنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ، فَمَن تَأمَّلَ هَذِهِ السُّورَةَ عُلِمَ مِنهُ ما لِلْقُرْآنِ مِنَ العَظَمَةِ فَأقْبَلَ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ يَتْلُوهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ كَما أمَرَ في سُورَةِ ”اقْرَأْ“ فَأمِنَ مِن غَيْرِ شَكٍّ مِن هَوْلِ يَوْمِ الدِّينِ المَذْكُورِ في التِّينِ، ومِن تِلاوَتِهِ بِحَقِّهِ تَعْظِيمُ لَيْلَةِ القَدْرِ لِما ذَكَرَ مِن شَرَفِها، وذَلِكَ جازَ إلى الحِرْصِ عَلَيْها في كُلِّ السَّنَةِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَفي كُلِّ رَمَضانَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَفي جَمِيعِ لَيالِي العَشْرِ الأخِيرَةِ مِنهُ، لِيَكُونَ لَهُ مِنَ الأعْمالِ بِسَبَبِ فَضْلِها ومُضاعَفَةِ العَمَلِ فِيها ما لا يُحْصِيهِ إلى اللَّهِ تَعالى بِحَيْثُ إنَّهُ رُبَّما يَكُونُ خَيْرًا مَن عَمِلَ مَنِ اجْتَهَدَ فِيما قَبْلَنا ألْفَ سَنَةٍ، ورُجُوعُ آخِرِها بِكَوْنِ هَذا التَّنَزُّلِ في لَيْلَةِ القَدْرِ عَلى أوَّلِها في غايَةِ الوُضُوحِ لِأنَّ أعْظَمَ السَّلامِ فِيها نُزُولُ القُرْآنِ، ولَعَلَّ كَوْنَها ثَلاثِينَ كَلِمَةً إشارَةٌ إلى أنَّ خِلافَةَ النُّبُوَّةِ الَّتِي هي ثَلاثُونَ سَنَةً بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي آخِرُها يَوْمَ نَزَلَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فِيهِ عَنِ الخِلافَةِ لِمُعاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ سَنَةَ إحْدى وأرْبَعِينَ هي كَلَيْلَةِ القَدْرِ في الزَّمانِ، وما بَعْدَها كَلَيالِي العامِ فِيهِ الفاضِلُ وغَيْرُهُ، وتِلْكَ المُدَّةُ كانَتْ لِخَمْسَةِ خُلَفاءَ أشارَتْ إلَيْهِمْ حُرُوفُ الكَلِمَةِ الأخِيرُ مِنها، فالألِفُ لِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (p-١٨٣)وهِيَ في غايَةِ المُناسِبَةِ لَهُ، فَإنَّ الرَّبّانِيِّينَ قالُوا: هو اسْمٌ لِلْقائِمِ المُحِيطِ الأعْلى الغائِبِ عَنْ مَقامِهِ لَكِنَّها الحاضِرُ مَعَهُ وُجُودًا كالرُّوحِ، وكَذا كانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حاضِرًا مَعَ الأُمَّةِ بِوُجُودِهِ وهو غائِبٌ عَنْهم بِتَوَجُّهِهِ، وجَمِيعُ قَلْبِهِ إنَّما هو مَعَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، واللّامُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهي شَدِيدَةُ المُناسَبَةِ لَهُ فَإنَّها صِلَةٌ بَيْنَ باطِنِ الألِفِ وظاهِرِ المِيمِ الَّذِي هو لِمُحَمَّدٍ ﷺ لِأنَّهُ لِلتَّمامِ، وكَذَلِكَ فَعَلَ - وصَلَ بَيْنَ السِّيرَيتن وصْلًا تامًّا بِحَيْثُ وصَلَ ضَعْفُ الصِّدِّيقِ في بَدَنِهِ وقُوَّتِهِ في أمْرِ اللَّهِ بِقُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتّى انْتَظَمَ بِهِ الأمْرُ انْتِظامًا لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، والفاءُ لِعُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وهو إشارَةٌ لِبَدْءِ خُلُوصِ مِنَّتِهِ لِتَنَقُّلٍ بِمَزِيدٍ أوْ نَقْصٍ، وآيَتُهُ الفِطْرَةُ الأُولى، وآيَتُها المَحْسُوسَةُ اللَّبَنُ أوَّلُ خُرُوجِهِ إذا أصابَهُ أقَلُّ شَيْءٍ مِنَ الهَواءِ المَمْدُودِ غَيَّرَهُ، وكَذَلِكَ الفِطْرَةُ إذا أصابَها أقَلُّ شَيْءٍ مِنَ الهَوى المَقْصُودِ غَيَّرَها، وكَذا [كانَ] حالُهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، حَصَلَتْ لَهُ آفاتُ الإحْسانِ إلى أقارِبِهِ الَّذِي قادَهُ إلَيْهِ قَوِيمَ فِطْرَتِهِ حَتّى حَصَلَتْ [لَهُ] الآفاتُ الكِبارُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والجِيمُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [وهُوَ] إشارَةٌ إلى الجَمْعِ، والإجْمالُ الَّذِي يَحْصُلُ عِنْدَهُ عَنّا وهو أنْسَبُ الأُمُورِ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَإنَّهُ حَصَلَ بِهِ الجَمْعُ بَعْدَ (p-١٨٤)الِافْتِراقِ العَظِيمِ بِقَتْلِ [ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ ] عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ شَهِيدًا مَظْلُومًا، وحَصَلَ بِهِ الإجْمالُ لَكِنْ لَمْ يَتِمَّ التَّفْصِيلُ بِسَبَبِ ما حَصَلَ مِنَ العِنادِ، والرّاءُ إشارَةٌ إلى الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وهي تَطْوِيرٌ وتَصْيِيرٌ وتَرْبِيَةٌ، وهي لِكُلِّ مُرَبٍّ مِثْلَ زَوْجِ المَرْأةِ وسَيِّدِ العَبْدِ، ولِذَلِكَ فَعَلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمّا رَأى المُلْكَ يَهْلَكُ بِقَتْلِ المُسْلِمِينَ رَبّاهُ بِنُزُولِهِ عَنِ الأمْرِ لِمُعاوِيَةَ، فَكانَ كالسَّيِّدِ أذِنَ لِعَبْدِهِ ورُبِّي أمَرُهُ بِهِ، وقَدْ سَمّاهُ النَّبِيُّ ﷺ سَيِّدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ، [واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب