الباحث القرآني

ولَمّا عَجِبَ مِن حالَتِهِ البَعِيدَةِ عَنِ العَقْلِ مَعَ نَفْسِهِ ومَعَ أبْناءِ جِنْسِهِ، أنْكَرَ عَلَيْهِ مُعَجِّبًا مِن كَوْنِهِ يَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ بِيَدِهِ شَيْءٌ، المُنْتَجُ لِأنَّهُ مُراقَبٌ وحالُهُ مَضْبُوطٌ غايَةَ الضَّبْطِ ويَنْسى ذَلِكَ، فَقالَ ذاكِرًا مَفْعُولُ ”أرَءَيْتَ“ الثّانِي وهو لا يَكُونُ إلّا جُمْلَةً اسْتِفْهامِيَّةً: [ ﴿ألَمْ يَعْلَمْ﴾ ] أيْ يَقَعُ لَهُ عَمَلٌ يَوْمًا مِنَ الأيّامِ ﴿بِأنَّ اللَّهَ﴾ أيْ وهو المَلِكُ الأعْلى ﴿يَرى﴾ أيْ [لَهُ] صِفَتا البَصَرِ والعِلْمِ عَلى الإطْلاقِ، فَهو يَعْلَمُ كُلَّ مَعْلُومٍ ويُبَصِّرُ كُلَّ مُبَصِّرٍ، ومَن كانَ لَهُ ذَلِكَ كانَ جَدِيرًا بِأنْ يَهْلَكَ مَن يَراهُ عَلى الضَّلالِ والإضْلالِ ويَنْصُرُ مَن يُطِيعُ أمْرَهُ عَلى كُلِّ مَن يُعادِيهِ، وإنَّما جاءَ هَذا الِاسْتِفْهامُ الإنْكارِيُّ عَلى هَذا الوَجْهِ لِأنَّهم يَعْتَرِفُونَ بِكُلِّ ما أنْكَرَ عَلَيْهِمْ (p-١٦٧)فِيهِ ويَلْزَمُهم [بِما يَفْعَلُونَ] مِن عَداوَةِ النَّبِيِّ ﷺ أنْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ لَهُ، وذَلِكَ هو عَيْنُ التَّناقُضِ الَّذِي لا أشْنَعَ عِنْدَهم مِنهُ، هَذا ويُمْكِنُ، وهو أحْسَنُ، أنْ تَنْزِلَ الآيَةُ عَلى الِاحْتِباكِ فَيُقالُ: لَمّا كانَ السُّؤالُ عَنْ حالِ النّاهِي لِأنَّ الرُّؤْيَةَ عِلْمَيَّةً لا بَصَرِيَّةً، فَتَشَوَّفَ السّامِعُ إلى مَعْرِفَتِها، وكانَ لِلنّاهِي حالانِ: طاعَةٌ ومَعْصِيَةٌ، بَدَأ بِالأُولى لِشَرَفِها عَلى الأُسْلُوبِ الماضِي في التَّقْرِيرِ عَلى سَبِيلِ التَّعْجِيبِ فَقالَ: ”أرَءَيْتَ“ أيْ أخْبِرْنِي ”إنْ كانَ“ النّاهِي ثابِتًا في نَهْيِهِ هَذا مُتَمَكِّنًا ”عَلى الهُدى“ أيِ الكامِلِ ”أوْ“ كانَ قَدْ ”أمَرَ“ في ذَلِكَ الأمْرِ أوْ في أمْرٍ ما مِن عِبادَةِ الأوْثانِ وغَيْرِها ”بِالتَّقْوى“ وحَذَفَ جَوابَ السُّؤالِ عَنْ هَذا الحالِ لِدَلالَةِ جَوابِ الحالِ الثّانِي عَلَيْهِ، وهو ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى كُلَّ ما يَصِحُّ أنْ يُرى، فَيَنْهى عَنْهُ إنْ كانَ مَكْرُوهًا ولا يُقِرُّ عَلَيْهِ ويُحاسَبُ بِهِ لِيَزِنَ هَذا النّاهِي أفْعالَهُ بِما شَرَعَهُ سُبْحانَهُ مِنَ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ والسَّمْعِيِّ فَيَعْلَمُ أهِيَ مِمّا يُرْضِيهِ لِيُقِرَّهُ عَلَيْهِ كَما يُقِرُّ [سائِرَ] ما يُرْضِيهِ أوْ يُسْخِطُهُ فَيَمْنَعُهُ مِنهُ. ولَمّا ذَكَرَ ما يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حالُ النّاهِي مِنَ السَّدادِ، ذَكَرَ ما يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الفَسادِ، فَقالَ مُقَرِّرًا مُعَجِّبًا مُعِيدًا العامِلَ لِزِيادَةِ التَّعْجِيبِ عَلى النَّمَطِ الأوَّلِ: ”أرَأيْتَ إنَّ كَذَّبَ“ أيْ هَذا النّاهِي بِالحَقِّ في وقْتِ النَّهْيِ - ولَمّا كانَ لا يَلْزَمُ مِنَ التَّكْذِيبِ التَّوَلِّي (p-١٦٨)قالَ: ”وتَوَلّى“ أيْ عَنِ الدِّينِ بِنَهْيهِ هَذا، فَكانَ عَلى الضَّلالِ والهَوى مُتَمَكِّنًا في ذَلِكَ بِحَيْثُ [إنَّهُ] لا يَصْدُرُ عَنْهُ فِعْلٌ إلّا فاسِدًا ”ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى“ فَيُحاسِبُ نَفْسَهُ بِما أرْشَدَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ مِنَ البَراهِينِ فَيَعْلَمُ أنَّ ما هو عَلَيْهِ مِنَ الرُّشْدِ إنْ كانَ الله يُقِرُّهُ عَلَيْهِ ويُمَكِّنُهُ مِنهُ أوِ الغَوايَةُ إنْ كانَ يَنْهاهُ عَنْهُ ولا يُقِرُّهُ عَلَيْهِ، كَما فَعَلَ بِهَذا الَّذِي أقْسَمَ: لَيَرْضَخْنَّ رَأْسَ هَذا المُصَلِّي، وأقْدَمَ عَلَيْهِ بِصَخْرَتِهِ وهو عِنْدَ نَفْسِهِ في غايَةِ القُدْرَةِ عَلى ذَلِكَ بِزَعْمِهِ فَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنهُ ورَدَّهُ عَنْهُ فَرَجَعَ عَلى عَقِبَيْهِ خاسِئًا ظاهِرًا عَلَيْهِ الجُبْنُ والرُّعْبُ وغَيْرُهُما مِمّا يَتَحاماهُ الرِّجالُ، ويَأْنَفُ مِنهُ الضَّراغِمَةُ الأبْطالُ، والِاحْتِباكُ هُنا بِطَلَبِ ”أرَءَيْتَ“ جُمْلَةً لَيْسَ هو مِنَ التَّنازُعِ لِأنَّهُ يَسْتَدْعِي إضْمارًا والجَمَلُ لا تُضْمَرُ، إنَّما هو مِن بابِ الحَذْفِ لِدَلِيلٍ، فَحَذْفُ الكَوْنِ عَلى الضَّلالِ ثانِيًا لِدَلالَةِ الكَوْنِ عَلى الهُدى [عَلَيْهِ] أوَّلًا، وحَذَفَ ”ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى“ أوَّلًا لِدَلالَةِ ذِكْرِهِ آخِرًا عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب