الباحث القرآني

ولَمّا كانَ الإنْسانُ مَعَ هَذِهِ المَحاسِنِ قَدْ سَلَّطَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلَيْهِ شَهَواتٍ وهَيَّأ طَبْعَهُ لِرَذائِلَ وأخْلاقَ دَنِيئاتٍ، وأهْوِيَةٍ وحُظُوظٍ لِلْأنْفُسِ مُمِيلاتٍ، وكانَ أكْثَرُ الخَلْقِ بِها هالِكًا لِتَتَبَيَّنَ قُدْرَةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، لَمْ يَسْتَثْنِ بَلْ حَكَمَ عَلى الجِنْسِ كُلِّهِ بِها كَما حَكَمَ عَلَيْهِ بِالتَّقْوِيمِ، فَقالَ تَعالى دالًّا بِأداةِ التَّراخِي عَلى أنَّ اعْوِجاجَهُ بَعْدَ ذَلِكَ العَقْلِ الرَّصِينِ والذِّهْنِ الصّافِي المُسْتَنِيرِ في غايَةِ البُعْدِ لَوْلا القُدْرَةُ الباهِرَةُ والقُوَّةُ القاسِرَةُ القاهِرَةُ: ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ﴾ أيْ بِما لَنا مِنَ القُدْرَةِ الكامِلَةِ والعِلْمِ الشّامِلِ، فَعَطَّلَ مَنافِعَ ما خَلَقْناهُ لَهُ فَضَيَّعَ نَفْسَهُ وفَوَّتَ أسْبابَ سَعادَتِهِ ونَكَّسْناهُ نَحْنُ في خَلْقِهِ، فَصارَ بِالأمْرَيْنِ في خُلُقِهِ وخَلْقِهِ نَفْسًا وهَوًى أوْ أعَمُّ (p-١٤٣)مِن ذَلِكَ بِالنَّكْسِ ﴿أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ أيْ إلى ما تَحْتَ رُتْبَةِ الجَماداتِ المُسْتَقْذِراتِ، فَصارَ يَعْمَلُ الأعْمالَ السَّيِّئاتِ المُقْتَضِيَةَ بَعْدَ حُسْنِ الجَمْعِ لِغايَةِ الشَّتاتِ، أمّا رَدُّهُ في خُلُقِهِ فَبِأنْ سَلَّطْنا عَلَيْهِ الشَّهَواتِ الَّتِي رَكَّبْناها في النُّفُوسِ، وجَعَلْناها داعِيَةً إلى كُلِّ بُؤْسٍ، فَغَلَبَتْ عَلى عَقْلِهِ فَأعْمَتْهُ حَتّى أوْرَدَتْهُ المَوارِدَ، وأوْقَعَتْهُ في المُهاوِي والمَعاطِبِ، حَتّى أنَّهُ لَيَرْكَبُ كَثِيرًا مِن أُمُورِهِ وهو قاطِعٌ بِأنَّهُ باطِلٌ شَنِيعٌ، لا يُقْدِمُ عَلى مِثْلِهِ عاقِلٌ، فَصارَ يَعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ما [هُوَ] دُونَ البَشَرِ بَلْ ومُطْلَقُ الحَيَوانِ مِمّا لا ضُرَّ فِيهِ ولا نَفْعَ، وصارَ يَرْكَبُ الظُّلْمَ والعُدْوانَ والإفْكَ والبُهْتانَ، وما لا يُحْصى بِالعَدِّ مِن أنْواعِ الفَواحِشِ والعِصْيانِ، ويَظْلِمُ أبْناءَ جِنْسِهِ وغَيْرِهِمْ، ويَجْتَهِدُ في الفُجُورِ، ويَتَصَرَّفُ بِما لا يَشُكُّ هو في أنَّهُ لا يُقِرُّهُ عَلَيْهِ مَن لَهُ أدْنى نَظَرٍ مِمَّنْ يُلْزِمُهُ أمْرَهُ ويَعْنِيهِ شَأْنَهُ، فَصارَ بِذَلِكَ أحَطَّ رُتْبَةً مِنَ البَهائِمِ بَلْ مِن أدْنى الحَشَراتِ المُسْتَقْذَراتِ لِأنَّها وإنْ كانَتْ لَها شَهَواتٌ إلّا أنَّها لَيْسَ لَها عَقْلٌ تُغَطِّيهِ بِها وتَطْمِسُ نُورَهُ بِظَلامِها، فَلا تُنْسَبُ إلى أنَّها فَوَّتَتْ شَيْئًا لِعَدَمِ تَكْلِيفِها لِعَدَمِ العَقْلِ المُوجِبِ لِلشَّرَفِ، وأمّا هو فاسْتَعْمَلَ ما خَلَقْناهُ لَهُ مِنَ الآلاتِ، وما فَضَّلْناهُ بِهِ مِنَ الكَمالاتِ، (p-١٤٤)فِي غَيْرِ ما خَلَقْناهُ لَهُ فاسْتَحَقَّ العَذابَ المُهِينَ، ثُمَّ يَمُوتُ مِن غَيْرِ مُجازاةٍ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ أوْ عَلى كَثِيرٍ مِنهُ، فَلا بُدَّ في الحِكْمَةِ حِينَئِذٍ مِن بَعْثِهِ، ولَهُ بَعْدَ البَعْثِ عِنْدَ رَبِّهِ عَلى ذَلِكَ عَذابٌ مُقِيمٌ، وأمّا في خُلُقِهِ فَبِالهَرَمِ حَتّى صارَ بَعْدَ تِلْكَ القُوى ضَعِيفًا، وبَعْدَ ذَلِكَ العِزِّ ذَلِيلًا مُهِينًا، وبَعْدَ ذَلِكَ العِلْمِ الغَزِيرِ والفِكْرِ المُنِيرِ لا يَعْلَمُ شَيْئًا، وصارَ يَسْتَقْذِرُهُ ويُنْكِرُهُ مَن كانَ يَأْلَفُهُ ويَسْتَعْطِرُهُ، وقالَ ابْنُ بُرْجانَ: أمّا رَدُّهُ في طَرِيقِ الدِّيانَةِ فَبِالكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، وأمّا فِيما سَبِيلُهُ الجَزاءُ فَبِالمَسْخِ في دارِ البَرْزَخِ وتَحْوِيلِ صُورَتِهِ إلى ما غَلَبَ عَلَيْهِ خِلْقَتُهُ وعَمَلُهُ في الدُّنْيا مِنَ الدَّوابِّ والهَوامِّ والبَهائِمِ، وفي الآخِرَةِ تَزْرَقُّ عَيْناهُ ويُشَوَّهُ خَلْقُهُ، وقالَ الإمامُ أبُو العَبّاسِ الإقْلِيشِيُّ في شَرْحِ ”المُقَدَّمِ المُؤَخَّرِ“ مِن شَرْحِهِ لِلسَّماءِ الحُسْنى: إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَهُ. أيِ الإنْسانُ - أوَّلًا في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَكَّبَهُ في هَذا الجِسْمِ الَّذِي يَجْذِبُهُ إلى أسْفَلِ سافِلِينَ، فَإنَّ قَدَّمَ عَقْلَهُ عَلى هَواهُ صَعِدَ إلى أعْلى عِلِّيِّينَ، وكانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ المُقَدَّمِينَ، وإنَّ قَدَّمَ هَواهُ هَبَطَ إلى إدْراكِ الجَحِيمِ، وكانَ مِنَ المُبْعَدِينَ المُؤَخَّرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب