الباحث القرآني
ولَمّا كانَ هَذا القَسَمُ مَعَ كَوْنِهِ جامِعًا لِبَدائِعِ المَصْنُوعاتِ الَّتِي هي [لِما ذُكِرَ] مِن حُكْمِها دالَّةً عَلى كَمالِ عِلْمِ خالِقِها وتَمامِ قُدْرَتِهِ جامِعًا لِأكْثَرِ الَّذِينَ آمَنُوا، وكانَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِكَوْنِهِ أباهم مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ بِالأرْضِ المُقَدَّسَةِ مِنَ القُدْسِ ومَكَّةَ، فَتُوقِعُ أكْمَلَ الخَلْقِ وأفْطَنَهُمُ المُخاطَبُ بِهَذا الذِّكْرِ المُقْسَمِ عَلَيْهِ عِلْمًا مِنهُ بِبُلُوغِ القَسَمِ إلى غايَتِهِ واسْتِوائِهِ عَلى نِهايَتِهِ، أُجِيبُ بِقَوْلِهِ تَعالى مُحَقِّقًا: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا﴾ أيْ قَدَرْنا وأوْجَدْنا بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ الباهِرَةِ والعِزَّةِ الغالِبَةِ القاهِرَةِ ﴿الإنْسانَ﴾ أيْ هَذا النَّوْعُ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الشَّهْوَةَ والعَقْلَ وفِيهِ الأُنْسُ بِنَفْسِهِ ما يُنْسِيهِ أكْثَرَ مُهِمِّهِ، ولِهَذا قالَتِ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ
﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ [البقرة: ٣٠] لِأنَّهم عَلِمُوا [أنَّهُ] إذا جُمِعَ الغَضَبُ والشَّهْوَةُ إلى العَقْلِ جاءَتِ المُنازَعَةُ فَيَتَوَلَّدُ الفَسادُ مِنَ الشَّهْوَةِ والسَّفْكِ مِنَ الغَضَبِ ﴿فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ أيْ كائِنٍ مِنّا رُوحًا وعَقْلًا أوْ أعَمَّ مِن ذَلِكَ بِما جَعَلَنا لَهُ مِن حُسْنِ الخَلْقِ (p-١٣٩)والخُلُقِ بِما خَصَّ بِهِ مِنَ انْتِصابِ القامَةِ وحُسْنِ الصُّورَةِ واجْتِماعِ خَواصِّ الكائِناتِ ونَظائِرِ سائِرِ المُمْكِناتِ بَعْدَ ما شارَكَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ السَّمْعِ والبَصَرِ والذَّوْقِ واللَّمْسِ والشَّمِّ الجَوارِحِ الَّتِي هَيَّأتْهُ لِما خُلِقَ لَهُ حَتّى قِيلَ إنَّهُ العالَمُ الأصْغَرُ كَما مَضى بَسْطُ ذَلِكَ في سُورَةِ الشَّمْسِ، ثُمَّ مَيَّزْناهُ بِما أوْدَعْناهُ فِيهِ بِما جَعَلْناهُ عَلَيْهِ مِنَ الفِطْرَةِ الأُولى الَّتِي لا تَبْدِيلَ لَها مِنَ الطَّبْعِ الأوَّلِ السَّلِيمِ الَّذِي هَيَّأْناهُ بِهِ وقَوَّيْناهُ بِقُدْرَتِنا لِقَبُولِ الحَقِّ، وبِمِثْلِ ما قُلْتُهُ في حَمْلِ الآيَةِ عَلى الفِطْرَةِ الأُولى قالَ الأصْفَهانِيُّ في تَفْسِيرِ ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ [البقرة: ٢١٣] في البَقَرَةِ، [و] قالَ ابْنُ بُرْجانَ هُنا: مَفْطُورٌ عَلى فِطْرَةِ الإسْلامِ الدِّينِ القَيِّمِ، ثُمَّ لَمّا مَنَحْناهُ بِهِ مِنَ العَقْلِ المُدْرِكِ القَوِيمِ، فَكَما جَعَلْنا لَهُ شَكْلًا يُمَيِّزُهُ عَنْ سائِرِ الحَيَوانِ مَنَحْناهُ عَقْلًا يَهْدِيهِ إلى العُرُوجِ عَنْ دَرْكِ النِّيرانِ إلى دُرْجِ الجِنانِ بِالإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ البالِغَةِ نِهايَةَ الإحْسانِ، بِدَلِيلِ مَن فِيهِ مِنَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ أكْمَلُهم [ مُحَمَّدٌ ] عَلى جَمِيعِهِمْ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ والتَّحِيَّةِ والإكْرامِ والتّابِعِينَ لَهُ بِإحْسانٍ الَّذِينَ مَلَئُوا الأرْضَ عِلْمًا وحِكْمَةً ونُورًا، قالَ البَغْوِيُّ: خَلَقَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مَدِيدَ القامَةِ يَتَناوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ مُزَيَّنًا (p-١٤٠)بِالعَقْلِ والتَّمْيِيزِ - انْتَهى، والعَقْلُ هو المَقْصُودُ في الحَقِيقَةِ مِنَ الإنْسانِ لِأنَّ مِن أسْمائِهِ اللُّبَّ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ المَقْصُودَ مِن [كُلِّ] شَيْءٍ لُبَّهُ وهو الشَّرْعُ كَما مَضى في آخِرِ النِّساءِ، والظّاهِرُ أنَّ عُقُولَ النّاسِ بِحَسَبِ الخَلْقِ مُتَقارِبَةٌ و[أنَّها] إنَّما تَفاوَتَتْ بِحَسَبِ الجِبِلَّةِ فَبَعْضُهم جَعَلَ سُبْحانَهُ وتَعالى عُنْصُرَهُ وجِبِلَّتَهُ في غايَةِ الفَسادِ فَلا تَزالُ جِبِلَّتُهُ تُرْدِي عَلى عَقْلِهِ فَيَتَناقَصُ إلى أنْ يَصِيرَ إلى أسُوءِ الأحْوالِ، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ، وبَعْضُهم يَصْرِفُ عَقْلَهُ بِحَسَبِ ما هَيَّأهُ اللَّهُ لَهُ إلى ما يُنْجِيهِ، وبَعْضُهم يَصْرِفُهُ لِذَلِكَ إلى ما يُرْدِيهِ، لِأنَّكَ تَجِدُ أعْقَلَ النّاسِ في شَيْءٍ وأُعَرَفَهم بِهِ أشَدَّهم بَلادَةً في شَيْءٍ آخَرَ، وأغْباهم في شَيْءٍ أذْكاهم في شَيْءٍ آخَرَ - فاعْتَبَرَ ذَلِكَ، وبِذَلِكَ انْتَظَمَ أمْرُ الخَلْقِ في أمْرِ مَعاشِهِمْ بِالعُلُومِ والصَّنائِعِ والأحْوالِ - واللَّهُ الهادِي، وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ التَّرْكِيبِ والصُّورَةِ لِأنَّهُ لَوْ كانَ في شَيْءٍ مِنهُما لَكانَ هو الأحْسَنُ لَأنَّ كُلَّ صِفَةٍ يَشْتَرِكُ فِيها الخَلْقُ والحَقُّ فالمُبالَغَةُ لِلْحَقِّ كالعالِمِ والأعْلَمِ والكَرِيمِ والأكْرَمِ - قالَهُ الأُسْتاذُ أبُو القاسِمِ القُشَيْرِيُّ في تَفْسِيرِهِ، وصِيغَةُ ”أفْعَلُ“ لا تَدُلُّ عَلى ما قالَهُ الزَّنادِقَةُ، وإنَّ عُزِيَ ذَلِكَ (p-١٤١)إلى بَعْضِ الأكابِرِ مِن قَوْلِهِمْ: لَيْسَ في الإمْكانِ أبْدَعُ مِمّا كانَ، لِأنَّ الدَّرَجَةَ الواحِدَةَ تَتَفاوَتُ إلى ما لا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ كَتَفاوُتِ أفْرادِ الإنْسانِ في صُوَرِهِ وألْوانِهِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أكْوانِهِ وبَدِيعِ شَأْنِهِ، وقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ في تَصْنِيفِ مُفْرَدٍ لِهَذِهِ الكَلِمَةِ سَمَّيْتُهُ: تَهْدِيمُ الأرْكانِ مَن ”لَيْسَ في الإمْكانِ أبْدَعُ مِمّا كانَ“، [وأوْضَحْتُهُ غايَةَ الإيضاحِ والبَيانِ، وجَرَتْ فِيهِ فِتَنٌ تُصِمُّ الآذانَ، ونَصَرَ اللَّهُ الحَقَّ بِمُوافَقَةِ الأعْيانِ، وقَهَرَ أهْلَ الطُّغْيانِ، ثُمَّ أرْدَفْتُهُ بِكِتابِ ”دَلالَةِ البُرْهانِ عَلى أنَّ في الإمْكانِ أبْدَعَ مِمّا كانَ] ثُمَّ شُفِيَتِ الأسْقامُ، ودُمِغَتِ الأخْصامُ، وخَسَأْتِ الأوْهامُ، بِالقَوْلِ الفارِقِ بَيْنَ الصّادِقِ والمُنافِقِ، وهو نَحْوُ ورَقَتَيْنِ في غايَةِ الإبْداعِ في قَطْعِ النِّزاعِ، ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ صِيغَةُ أفْعَلَ مُفِيدَةً [بِالنِّسْبَةِ] إلى شَيْءٍ أرادَهُ اللَّهُ بِحَيْثُ أنْ نَتَفَطَّنَ لَهُ [نَحْنُ] لِأنَّ مِنَ المُجْمَعِ عَلَيْهِ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ وصَرَّحَ بِهِ الأشْعَرِيُّ وغَيْرُهُ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كُتُبِهِمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا تَتَناهى مَقْدُوراتُهُ، ومِمَّنْ صَرَّحَ بِما صَرَّحَ بِهِ الأشْعَرِيُّ وأكْثَرُ في الإمامِ حُجَّةِ الإسْلامِ الغَزالِيِّ في كُتُبِهِ الإحْياءُ وغَيْرُهُ ولا سِيَّما كِتابُهُ“ تَهافُتُ الفَلاسِفَةِ "وبَيَّنَ أنَّ هَذا مِن قَواعِدِهِمْ لِنَفْيِهِمْ صِفَةَ الإرادَةِ وقَوْلِهِمْ بِأنَّ فِعْلَهُ بِالذّاتِ، وبَيَّنَ فَسادَ ذَلِكَ، (p-١٤٢)وأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قادِرٌ عَلى اخْتِراعِ [عالَمٍ] آخَرَ وثالِثٍ مُتَفاوِتَةٍ بِالصِّغَرِ والكِبَرِ، وعَلى كُلِّ مُمْكِنٍ، وعَرَفَ أنَّ المُمْكِنَ هو المَقْدُورُ عَلَيْهِ، وأنَّهُ يَرْجِعُ إلى المَقْدُورِ عَلَيْهِ أيْضًا مُمْكِنٌ، وعُرِفَ المُمْتَنِعِ بِأنَّهُ إثْباتُ الشَّيْءِ مَعَ نَفْيِهِ، وإثْباتُ الأخَصِّ مَعَ نَفْيِ الأعَمِّ، وإثْباتُ الِاثْنَيْنِ مَعَ نَفْيِ الواحِدِ، وقالَ: وما لا يَرْجِعُ إلى ذَلِكَ فَهو مُمْكِنٌ، فَدَخَلَ فِيهِ عالَمٌ أبْدَعُ مِن هَذا العالَمِ - واللَّهُ المُوَفَّقُ لِما يُرِيدُ.
{"ayah":"لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق