الباحث القرآني

(p-١٣٠)سُورَةُ التِّينِ. مَقْصُودُها [سِرٌّ] مَقْصُودُ ﴿ألَمْ نَشْرَحْ﴾ [الشرح: ١] وذَلِكَ هو إثْباتُ القُدْرَةِ الكامِلَةِ وهو المُشارُ إلَيْهِ بِاسْمِها، فَإنَّ في خَلْقِ التِّينِ والزَّيْتُونِ مِنَ الغَرائِبِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، وكَذا فِيما أُشِيرَ إلَيْهِ بِذَلِكَ مِنَ النُّبُوّاتِ، وضَمِّ القَسَمِ إلى المُقْسَمِ عَلَيْهِ وهو الإنْسانُ، الَّذِي هو أعْجَبُ ما في الأكْوانِ، [واضِحٌ] في ذَلِكَ ”بِسْمِ اللَّهِ“ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لا نَعْبُدُ إلّا إيّاهُ ”الرَّحْمَن“ الَّذِي عَمَّ بِنِعْمَتِهِ إيجادَهُ وبَيانَهُ جَمِيعَ خَلْقِهِ أسْفَلَهُ وأعْلاهُ [وأدْناهُ] وأقْصاهُ ”الرَّحِيم“ الَّذِي خَصَّ مِن بَيْنِهِمْ أهْلَ وِدِّهِ بِما يَرْضاهُ، وأرْدى مَن عَداهم وأشْقاهُ. لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى [فِي] تِلْكَ السُّورَةِ أكْمَلَ خَلْقِهِ وما كَمَّلَهُ بِهِ، [و] خَتَمَها بِالأمْرِ بِتَخْصِيصِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِالرَّغْبَةِ إلَيْهِ، فَكانَ (ﷺ يَقُومُ حَتّى تَوَرَّمَ قَدَماهُ ويَبْذُلَ الجُهْدَ لِمَوْلاهُ في [كُلِّ] ما يَرْضاهُ، ذَكَرَ في هَذِهِ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى كَما جَعَلَ ذاتَهُ (p-١٣١)أكْمَلَ ذَواتِ المَخْلُوقاتِ، خَصَّهُ بِأنْ جَعَلَ نَوْعَهُ (ﷺ أكْمَل الأنْواعِ وهو الإنْسانُ، وأصْلُهُ أعْظَمُ الأُصُولِ هو إبْراهِيمُ (ﷺ، وبَلَدَهُ أفْضَلَ البِلادِ وهي مَكَّةُ، و[أنَّ] مَن عاداهُ بِمُنابَذَةِ شَرْعِهِ أسْفَلَ الخَلْقِ، وأنَّ لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى تَمامَ القُدْرَةِ، وهو فاعِلٌ بِالِاخْتِيارِ، يُعْلِي مَن يَشاءُ ويَسْفُلُ مَن يَشاءُ، فَمَنزِلَتُها مِن آخِرِ تِلْكَ مَنزِلَةَ العِلَّةِ مِنَ المَعْلُولِ، وأقْسَمَ فِيها بِأشْياءَ أشارَ بِها إلى شَرَفِها في أنْفُسِها وفي عَجِيبِ صُنْعِها وشَرَفِ البِقاعِ الَّتِي يَكُونُ بِها إيماءً إلى ما شَرَّفَها بِهِ مِمّا أظْهَرَ بِها مِنَ الخَيْرِ والبَرَكاتِ بِسُكْنى الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ، والصّالِحِينَ رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ فَكانَتْ مُهاجِرَ إبْراهِيمَ ومَوْلِدَ عِيسى وأكْثَرَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَنشَأهُمْ، وكانَ مِنها مَظْهَرُ نُبُوَّةِ مُوسى، ومَظْهَرُ نُبُوَّةِ إسْماعِيلَ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ ووَلَدِهِ خاتَمِ الأنْبِياءِ الكِرامِ، عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَكانَ البَيْتِ الَّذِي هو قَواتِمُ لِلنّاسِ، وهُدًى لِلْعالَمِينَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الإشاراتِ الظّاهِراتِ والدَّلالاتِ الواضِحاتِ عَلى تَمامِ قُدْرَتِهِ وفِعْلِهِ بِالِاخْتِيارِ، لِأنَّهُ يُعْلِي مَن يَشاءُ مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ مِنَ البِقاعِ وغَيْرِها عَلى أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ويَسْفُلُ مَن يَشاءُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ إلى أسْفَلِ سافِلِينَ. (p-١٣٢)وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَر بْنُ الزُّبَيْرِ: هَذِهِ سُورَةُ مُوَضِّحَةٌ ومُتَمِّمَةٌ لِلْمَقْصُودِ في السُّورَتَيْنِ قَبْلَها، فَبانَ لَكَ أنَّ الصُّورَةَ الإنْسانِيَّةَ بِظاهِرِ الأمْرِ - مِمّا [هِيَ] عَلَيْهِ مِنَ التَّرْتِيبِ والإتْقانِ - قَدْ كانَتْ تَقْتَضِي الِاتِّفاقَ بِظاهِرِ ارْتِباطِ الكَمالِ [بِها] مِن حَيْثُ إلَهًا في أحْسَنِ تَقْوِيمِ، والِافْتِراقُ يَبْعُدُ في الظّاهِرِ، فَكَيْفَ افْتَرَقَ الحُكْمُ واخْتَلَفَ السُّلُوكُ، فَمَن صاعَدَ بِالِاسْتِيضاحِ والِامْتِثالِ، ونازَلَ أسْفَلَ سافِلِينَ فَضْلًا عَنْ تَرَقِّي بَعْضِ دَرَجاتِ الكَمالِ، فَإذًا لَيْسَ يَرْقى مِن خَصَّ بِمَزِيَّةِ التَّقْرِيبِ إلّا لِأنَّهُ نُودِيَ مِن قَرِيبٍ فَأسْرَعَ في إجابَةِ مُنادِيهِ وأصاخَ، وما اعْتَلَّ بِحادِيهِ فَسَلْ مِن واضِحاتِ السَّبِيلِ ما رَسَمَ لَهُ، وبَنى [عَلى] ما كَتَبَ لَهُ مِن ذَلِكَ عَمَلَهُ ﴿ولَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها﴾ [السجدة: ١٣] فَعَلى العاقِلِ المُنْصِفِ في نَفْسِهِ أنْ يَعْلَمَ أنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ فَيَضْرَعُ إلى خالِقِهِ في طَلَبِ الإخْلاصِ «مَن وجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ» فَأوْضَحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أنَّ ما أعْطى اللَّهُ نَبِيَّهُ (ﷺ وخَصَّهُ بِهِ مِن ضُرُوبِ الكَراماتِ وابْتَدَأهُ مِن عَظِيمِ الآلاءِ مِمّا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَتانِ إلى ما مَنَحَهُ مِن خَيْرِ الدّارِينَ وما تَضْمَّنَهُ. قَسَمَهُ لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّهُ ما ودَّعَهُ ولا قَلاهُ مِنَ المُلاطَفَةِ والتَّأْنِيسِ ودَلائِلِ الحُبِّ والتَّقْرِيبِ - كُلُّ ذَلِكَ فَضْلًا مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وإحْسانًا لا لِعَمَلِ (p-١٣٣)تَقَدُّمٍ يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ أوْ بَعْضَهُ، ولَوْ تَقَدَّمَ عَمْلٌ لَمْ يَقَعْ إلّا بِمَشِيئَتِهِ، وتَوْفِيقِهِ وإرادَتِهِ، ولا يَسْتَوْجِبُ أحَدٌ عَلَيْهِ شَيْئًا، وإنَّما هو فَضْلُهُ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ، فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى مُنَبِّهًا عَلى ما وقَعَ الإيماءُ إلى بَعْضِهِ ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] ومَعَ ذَلِكَ لا يَنْفَعُهُ وُقُوعُ صُورَتِهِ الظّاهِرَةِ في عالَمِ الشَّهادَةِ عَلى أكْمَلِ خَلْقٍ ولِأتَمَّ وضْعٍ بَلْ إذا لَمْ يَصْحَبْهُ [تَوْفِيقٌ] وسَبَقَتْهُ سَعادَةٌ مِن خالِقِهِ ولَمْ يُجْعَلْ لَهُ نُورٌ يَمْشِي بِهِ لَمْ يَرَ غَيْرَ نَفْسِهِ ولا عَرَفَ إلّا أبْناءَ جِنْسِهِ، فَقَصَرَ نَظَرَهُ عَلى أوَّلِ ما شاهَدَ، ووَقَفَ عِنْدَ ما عايَنَ مِن غَيْرِ اعْتِيادٍ يَحُدُّهُ إلى تَحَقُّقِ مَآلِهِ وتَبَيُّنِ جُحالِهِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، فَلَمّا قَصَرَ وما أبْصَرَ اعْتَقَدَ لِنَفْسِهِ الكَمالَ، وعَمِيَ عَنِ المُبْتَدَأِ والمَآلِ، فَصارَ أسْفَلَ سافِلِينَ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالآياتِ نَظَرُهُ، ولا عَرَفَ حَقِيقَةَ خَبَرِهِ ﴿أوَلَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [يس: ٧٧] ﴿وضَرَبَ لَنا مَثَلا ونَسِيَ خَلْقَهُ﴾ [يس: ٧٨] ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [التين: ٦] فَهُمُ الَّذِينَ هَداهم رَبُّهم [ ﴿بِإيمانِهِمْ﴾ [يونس: ٩] ] فَجَرَوْا بِسَبَبِهِ مِن خَلْقِهِ في [أحْسَنِ] تَقْوِيمٍ واسْتَوْضَحُوا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ، واسْتُبْصَرُوا فَأبْصَرُوا، ونَظَرُوا فاعْتَبَرُوا. وقالُوا: رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا، فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [انْتَهى]. (p-١٣٤) * * * ولَمّا كانَ التِّينُ أحْسَنَ الفَواكِهِ تَقْوِيمًا فِيما ذَكَرُوا مِن فَضِيلَتِهِ، وهو - مَعَ كَوْنِهِ فاكِهَةً شَهِيَّةً حُلْوَةً جِدًّا - غِذاءٌ يُقِيمُ الصُّلْبَ وقُوتٌ كالبُرِّ [و] سَرِيعُ الهَضْمِ، ودَواءٌ كَثِيرُ النَّفْعِ يُوَلِّدُ دَمًا صالِحًا ويَنْفَعُ الرِّئَةَ والكُلى ويَلِينُ الطَّبْعَ ويُحَلِّلُ البَلْغَمَ ويُزِيلُ رَمْلَ المَثانَةِ ويَفْتَحَ سَدَدَ الكَبِدِ والطِّحالَ، فَكانَ جامِعًا لِجَمِيعِ مَنافِعِ المُتَناوِلاتِ مِنَ الغِذاءِ والتَّفَكُّهِ والتَّحَلِّي والتَّداوِي، فَهو كامِلٌ في مَجْمُوعِ ما هو فِيهِ مِن لَذَّةِ طَعْمِهِ وكَثْرَةِ نَفْعِهِ، وكَوْنِهِ كَفاكِهَةِ الجَنَّةِ بِلا شائِبَةٍ تَعُوقُ عَنْ أكْلِهِ مَن صِنْوانٍ يَتْعَبُ أوْ نَوى يُرْمى، مَعَ أنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ رَطْبًا ويابِسًا، وهو مَعَ ذَلِكَ في سُرْعَةِ فَسادِهِ وسُوءِ تَغَيُّرِهِ أسْفَلَها رُتْبَةً وأرْدَؤُها مَغَبَّةً، فَهو كالفِطْرَةِ الأُولى [فِي] مَبْدَئِهِ سُهُولَةً وحُسْنًا وقَبُولًا لِكُلٍّ مِنَ الإصْلاحِ والتَّغَيُّرِ، كَآخِرِ الهَرَمِ عِنْدَ نِهايَتِهِ في عَظِيمِ تَغَيُّرِهِ بِحَيْثُ [إنَّهُ] لا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنهُ إذا تَغَيَّرَ، وغَيْرُهُ مِنَ الفَواكِهِ إذا فَسَدَ جانِبٌ مِنهُ بَقِيَ آخَرُ، فَكانَ في هَذا كالقِسْمِ لِلسّافِلِ مِنَ الإنْسانِ أقْسَمَ اللَّهُ تَعالى بِهِ فَقالَ: ﴿والتِّينِ﴾ بادِئًا بِهِ لِأنَّ القَسَمَ المُشارَ بِهِ إلَيْهِ أكْثَرُ، فالِاهْتِمامُ بِهِ أكْبَرُ. ولَمّا كانَ الزَّيْتُونُ في [عَدَمِ] فَسادٍ يَطْرُقُهُ أوْ تَغَيُّرِ يَلْحَقُهُ، وفِيهِ الدُّسُومَةُ والحَرافَةُ والمَرارَةُ، وهو إدامٌ ودَواءٌ مَعَ تَهَيُّئِهِ لِلنَّفْعِ (p-١٣٥)بِكُلِّ حالٍ في أكْلِهِ بَعْدَ تَزْيِيتِهِ والتَّنْوِيرِ بِدَهْنِهِ والِادِّهانِ بِهِ لِإزالَةِ الشَّعَثِ وتَنْعِيمِ البَشْرَةِ وتَقْوِيَةِ العَظْمِ وشَدِّ العَصَبِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَنافِعِ مَعَ لَدْنِهِ وما يَتْبَعُ ذَلِكَ مِن فَضائِلِهِ الجَمَّةِ كالمُؤْمِنِ [تَلاهُ بِهِ] فَقالَ: ﴿والزَّيْتُونِ﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب