الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ هَذِهِ المَآثِرَ الشَّرِيفَةَ الَّتِي هي الكَمالُ، وكانَ الكَمالُ لا يَصْفُو إلّا مَعَ مُساعَدَةِ الأقْدارِ، فَإنَّ الهِمَمَ إذا عَظُمَتْ [اتَّسَعَتْ] مَجالاتُها، فَإذا حَصَلَ فِيها تَعْطِيلٌ حَصَلَ فِيها نَكَدُ حَسْبِهِ، بَيَّنَ أنَّهُ أزالَ عَنْهُ العَوائِقَ في عِبارَةٍ دالَّةٍ عَلى أنَّ سَبَبَ المِنحَةِ بِهَذِهِ الكَمالاتِ هو ما كانَ ﷺ فِيهِ مِنَ الصَّبْرِ عَلى الأكْدارِ، وتَجَرَّعَ مِراراتِ الأقْدارِ، فَقالَ مُؤَكِّدًا تَرْغِيبًا في حَمْلٍ مِثْلِ ذَلِكَ رَجاءً في الإثابَةِ بِما يَلِيقُ مِن هَذِهِ المَعالِي مُبالَغًا في الحَثِّ عَلى تَحَمُّلِهِ بِذِكْرِ المَعِيَّةِ إشارَةً إلى تَقارُبِ الزَّمَنَيْنِ بِحَيْثُ إنَّهُما كانا كالمُتَلازِمَيْنِ مُسَبِّبًا عَمّا مَضى ذِكْرُهُ مِن حالِهِ مِنَ الضُّحى: ﴿فَإنَّ﴾ أيْ فَعَلَ بِكَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الكِمالاتِ الكِبارَ بِسَبَبِ أنَّهُ قَضى في الأزَلِ قَضاءً لا مَرَدَّ لَهُ [ولا مُعَقِّبَ] لِشَيْءٍ مِنهُ أنَّ ﴿مَعَ العُسْرِ﴾ أيْ [هَذا] النَّوْعُ خاصَّةً ﴿يُسْرًا﴾ أيْ عَظِيمًا جِدًّا يَجْلِبُ بِهِ المَصالِحَ ويَشْرَحُ بِهِ ما كانَ قَيَّدَهُ مِنَ القَرائِحِ، فَإنَّ أهْلَ البَلاءِ ما زالُوا يَنْتَظِرُونَ الرَّخاءَ عِلْمًا مِنهم بِالفِطْرَةِ الأُولى الَّتِي (p-١٢٢)فُطِرَ النّاسُ عَلَيْها أنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِالكَمالِ، وأنَّهُ الفاعِلُ بِالِاخْتِيارِ لِنَسِمَهُ الكَوائِنَ بِأضْدادِها، وقَدْ أجْرى سُنَّتَهُ القَدِيمَةَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، فَلَمّا قاسى ﷺ مِمّا ذَكَرَ في الضُّحى مِنَ اليُتْمِ الشَّدِيدِ وضَلالِ قَوْمِهِ العَرَبِ خاصَّةً كُلُّهُمُ الَّذِينَ ألْهَمَهُ اللَّهُ تَعالى مُخالَفَتَهم في أصْلِ الدِّينِ بِتَجَنُّبِ الأوْثانِ، وفي فَرْعِهِ بِالوُقُوفِ مَعَ النّاسِ في الحَجِّ في عَرَفَةَ مَوْقِفَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام، ومِنَ العَيْلَةِ ما لَمْ يَحْمِلْهُ أحَدٌ حَتّى كانَ بِحَيْثُ يَمْتَنُّ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلَيْهِ بِإنْقاذِهِ مِنهُ في كِتابِهِ القَدِيمِ وذِكْرِهِ الحَكِيمِ، وكانَ مَعَ تَحَمُّلِ ذَلِكَ قائِمًا بِما يَحِقُّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ ويَعْلُو إلى مَعالِي الشُّكْرِ«”فَيَحْمِلُ“ - كَما قالَتِ الصِّدِّيقَةُ الكُبْرى خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - ”الكَلَّ، ويَقْرِي الضَّيْفَ، ويَصِلُ الرَّحِمَ، ويُعِينُ عَلى نَوائِبِ الحَقِّ»“ . ثُمَّ حَمَلَ أعْباءَ النُّبُوَّةِ فَكانَ يَلْقى مِن قَوْمِهِ [مِنَ] الأذى والكَرْبِ والبَلاءِ ما لَمْ يَحْمِلْهُ غَيْرُهُ، بَشَّرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ يُيَسِّرُ لَهُ جَمِيعَ ذَلِكَ ويُلَيِّنُ قُلُوبَهم فَيَظْهَرُ دِينُهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ، ويُغْنِي أصْحابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بَعْد عَيْلَتِهِمْ، ويُكَثِّرُهم بَعْدَ قِلَّتِهِمْ، ويُعِزُّهم بَعْدَ ذِلَّتِهِمْ، ويَصِيرُ هَؤُلاءِ المُخالِفُونَ لَهُ أعْظَمَ الأعْضادِ، ويَنْقادُ لَهُ المُخالِفُ أتَمَّ انْقِيادٍ، ويَفْتَحُ لَهُ أكْثَرَ البِلادِ، لِيَكُونَ هَذا العَطاءُ في اليُسْرِ بِحَسَبِ ما كانَ وقَعَ (p-١٢٣)مِنَ العُسْرِ، فَإنَّهُ قَضى سُبْحانَهُ وتَعالى قَضاءً لا يَرْتَدُّ أنَّهُ يُخالِفُ بَيْنَ الأحْوالِ، دَلِيلًا قاطِعًا عَلى أنَّهُ تَعالى وحْدَهُ الفَعّالُ، وأنَّ فِعْلَهُ بِالِاخْتِيارِ، لا بِالذّاتِ والإجْبارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب