الباحث القرآني
ولَمّا أقْسَمَ بِهَذا [القَسَمِ] المُناسِبِ لِحالِهِ ﷺ، أجابَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما ودَّعَكَ﴾ أيْ تَرَكَكَ تَرْكًا يَحْصُلُ بِهِ فِرْقَةٌ كَفِرْقَةِ المُوَدِّعِ ولَوْ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ الَّذِي هو مُرادُ المُوَدِّعِ ﴿رَبُّكَ﴾ أيِ الَّذِي أحْسَنَ إلَيْكَ بِإيجادِكَ أوَّلًا، وجَعَلَكَ أكْمَلَ الخَلْقِ ثانِيًا، ورَبّاكَ أحْسَنَ تَرْبِيَةً ثالِثًا، كَما أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَوْدِيعُ اللَّيْلِ لِلنَّهارِ بَلِ الضُّحى لِلنَّهارِ الَّذِي هو أشَدُّ ضِيائِهِ، ولا يُمْكِنُ تَوْدِيعُ الضُّحى لِلنَّهارِ ولا اللَّيْلِ وقْتَ سَجْوِهِ لَهُ.
ولَمّا كانَ رُبَّما تَعَنَّتَ مُتَعَنِّتٌ فَقالَ: ما تَرَكَهُ ولَكِنَّهُ لا يُحِبُّهُ، فَكَمْ (p-١٠٣)مِن مُواصِلٍ ولَيْسَ بِواصِلٍ، قالَ نافِيًا لِكُلِّ تَرْكٍ: ﴿وما قَلى﴾ أيْ وما أبْغَضَكَ بُغْضًا ما، وحُذِفَ الضَّمِيرُ اخْتِصارًا لَفْظِيًّا لِيَعُمَّ، فَهو مِن تَقْلِيلِ اللَّفْظِ لِتَكْثِيرِ المَعْنى، وذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ انْقِطاعُ الوَحْيِ عَنْهُ مُدَّةً لِأنَّهم سَألُوهُ عَنِ الرُّوحِ وقِصَّةِ أهْلِ الكَهْفِ وذِي القَرْنَيْنِ فَقالَ: «أُخْبِرُكم بِذَلِكَ غَدًا»، ولَمْ يَسْتَثْنِ، فَقالُوا: [قَدْ] ودَّعَهُ رَبُّهُ وقَلاهُ، فَنَزَلَتْ لِذَلِكَ، ولَمّا نَزَلَتْ كَبُرَ ﷺ فَكانَ التَّكْبِيرُ فِيها وفِيما بَعْدَها سَنَةً كَما يَأْتِي إيضاحُهُ وحِكْمَتُهُ آخِرُها، وقَدْ أفْهَمَتْ هَذِهِ العِبارَةُ أنَّ المَراتِبَ التَّقْرِيبِيَّةَ أرْبَعٌ: تَقْرِيبٌ بِالطّاعاتِ ومَحَبَّةٌ وهي لِلْمُؤْمِنِينَ، وإبْعادٌ بِالمَعاصِي وبُغْضٌ وهي لِلْكَفّارِ، وتَقْرِيبٌ بِالطّاعاتِ مَخْلُوطٌ بِتَبْعِيدٍ لِلْمَعاصِي وهي لِعُصاةِ المُؤْمِنِينَ، وإعْراضِ مَخْلُوطٍ بِتَقْرِيبٍ بِصُوَرِ طاعاتٍ لا قَبُولَ لَها وهي لِعِبادِ الكُفّارِ.
وقالَ الأُسْتاذُ أبُو جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: لَمّا قالَ تَعالى: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ [الشمس: ٨] ثُمَّ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ في اللَّيْلِ: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ [الليل: ٧] وبِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى﴾ [الليل: ١٢] ﴿وإنَّ لَنا لَلآخِرَةَ والأُولى﴾ [الليل: ١٣] فَلَزِمَ الخَوْفُ واشْتَدَّ الفَزَعُ وتَعَيَّنَ عَلى المُوَحِّدِ الإذْعانَ لِلتَّسْلِيمِ والتَّضَرُّعِ في التَّخَلُّصِ والتِجاؤُهُ إلى السَّمِيعِ العَلِيمِ، أنِسَ تَعالى أحَبُّ عِبادِهِ إلَيْهِ وأعْظَمُهم مَنزِلَةً لَدَيْهِ، وذَكَرَ [لَهُ] (p-١٠٤)ما مَنَحَهُ مِن تَقْرِيبِهِ واجْتِبائِهِ وجَمَعَ خَيْرَ الدّارَيْنِ لَهُ فَقالَ تَعالى: ﴿والضُّحى﴾ [الضحى: ١] ﴿واللَّيْلِ إذا سَجى﴾ [الضحى: ٢] ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ ﴿ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ [الضحى: ٤] ثُمَّ عَدَّدَ تَعالى عَلَيْهِ نِعَمَهُ بَعْدَ وعْدِهِ الكَرِيمِ لَهُ بِقَوْلِهِ: [ ﴿ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ [الضحى: ٥] وأعْقَبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:] ﴿فَأمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩] ﴿وأمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠] فَقَدْ آوَيْتُكَ قَبْلَ تَعَرُّضِكَ وأعْطَيْتُكَ قَبْلَ سُؤالِكَ، فَلا تُقابِلُهُ بِقَهْرِ مَن تَعْرِضُ وانْتِهارِ مَن سَألَ، وقَدْ حاشاهُ سُبْحانَهُ عَمّا نَهاهُ [عَنْهُ] ولَكِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِالنِّعَمِ ولِيَسْتَوْضِحَ الطَّرِيقَ [مَن] وُفِّقَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، أمّا هو ﷺ فَحَسْبُكَ مَن تَعَرُّفِ رَحْمَتِهِ ورِفْقِهِ ﴿وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣] ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] ثُمَّ تَأْمَّلْ اسْتِفْتاحَ هَذِهِ السُّورَةِ ومُناسِبَةَ ذَلِكَ المَقْصُودِ ولِذَلِكَ السُّورَةُ قَبْلَها بِرَفْعِ القَسَمِ في الأوْلى بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١] تَنْبِيهًا عَلى إبْهامِ الأمْرِ في السُّلُوكِ عَلى المُكَلَّفِينَ وغَيْبَةِ حُكْمِ العَواقِبِ، ولِيُناسِبَ هَذا حالُ المُتَذَكِّرِ بِالآياتِ وما يَلْحَقُهُ مِنَ الخَوْفِ مِمّا أمَرَهُ غائِبٌ عَنْهُ مِن تَيْسِيرِهِ ومَصِيرِهِ واسْتِعْصامِهِ بِهِ يَحْصُلُ اليَقِينُ واسْتِصْغارُ دَرَجاتِ المُتَّقِينَ، ثُمَّ لَمّا لَمْ يَكُنْ هَذا غائِبًا بِالجُمْلَةِ (p-١٠٥)عَنْ آحادِ المُكَلَّفِينَ أعْنِي ما يُثْمِرُ العِلْمَ اليَقِينَ ويُعْلِي مِن أهْلٍ لِلتَّرَقِّي في دَرَجاتِ المُتَّقِينَ، بَلْ قَدْ يُطْلِعُ سُبْحانَهُ خَواصَّ عِبادِهِ - بِمُلازَمَتِهِ التَّقْوى والِاعْتِبارِ - عَلى واضِحَةِ السَّبِيلِ ويُرِيهِمْ مُشاهَدَةً وعَيانًا ما قَدِ انْتَهَجُوا قَبْلَ سَبِيلِهِ بِمَشَقَّةِ النَّظَرِ في الدَّلِيلِ، «قالَ ﷺ لِحارِثَةَ:
”وجَدْتَ فالزَمْ»“ وقالَ مِثْلَهُ لِلصَّدِيقِ، وقالَ تَعالى: ﴿لَهُمُ البُشْرى في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [يونس: ٦٤] ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَـزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ألا تَخافُوا ولا تَحْزَنُوا وأبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠] ﴿نَحْنُ أوْلِياؤُكم في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ [فصلت: ٣١] فَلَمْ يَبْقَ في حَقِّ هَؤُلاءِ ذَلِكَ الإبْهامُ، ولا كَدَرُ خَواطِرِهِمْ بِتَكاثُفِ ذَلِكَ الإظْلامِ، بِما مَنَحَهم سُبْحانَهُ وتَعالى مِن نِعْمَةِ الإحْسانِ بِما وعَدَهم في قَوْلِهِ: ﴿يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا﴾ [الأنفال: ٢٩] و ﴿ويَجْعَلْ لَكم نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ [الحديد: ٢٨] ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾ [الأنعام: ١٢٢] فَعَمَلَ هَؤُلاءِ عَلى بَصِيرَةٍ، واسْتَوْلَوُا اجْتِهادًا بِتَوْفِيقِ رَبِّهِمْ عَلى أعْمالٍ جَلِيلَةٍ خَطِيرَةٍ، فَقَطَعُوا عَنِ الدُّنْيا الآمالَ، وتَأهَّبُوا لِآخِرَتِهِمْ بِأوْضَحِ الأعْمالِ ﴿تَتَجافى جُنُوبُهم عَنِ المَضاجِعِ﴾ [السجدة: ١٦] ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧] فَلِابْتِداءِ الأمْرِ وشِدَّةِ الإبْهامِ والإظْلامِ أشارَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿واللَّيْلِ إذا (p-١٠٦)يَغْشى﴾ [الليل: ١] ولَمّا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ الحالُ في حَقِّ مَن كَتَبَ في قَلْبِهِ الإيمانَ وأيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنهُ أشارَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿والنَّهارِ إذا تَجَلّى﴾ [الليل: ٢] ولِانْحِصارِ السُّبُلِ وإنْ تَشَعَّبْتُ في طَرِيقِي ﴿فَمِنكم كافِرٌ ومِنكم مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢] ﴿فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ﴾ [الشورى: ٧] أشارَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [الليل: ٣] ﴿ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩] ﴿فَفِرُّوا إلى اللَّهِ﴾ [الذاريات: ٥٠] الواحِدُ مُطْلَقًا، فَقَدْ وضَحَ لَكَ إنْ شاءَ اللَّهُ بَعْضَ ما يَسُرُّ مِن تَخْصِيصِ هَذا القَسَمِ - واللَّهُ أعْلَمُ، أمّا سُورَةُ الضُّحى فَلا إشْكالَ في مُناسَبَةٍ في اسْتِفْتاحِ القَسَمِ بِالضُّحى لِما يُسِرُّهُ بِهِ سُبْحانَهُ لا سِيَّما إذا اعْتَبَرَ ما ذَكَرَ مِن سَبَبِ نُزُولِ السُّورَةِ، وأنَّهُ ﷺ كانَ قَدْ فَتَرَ عَنْهُ الوَحْيُ حَتّى قالَ بَعْضُ الكُفّارِ: قَلى مُحَمَّدًا رَبُّهُ، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ مُشْعِرَةً عَنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ والبِشارَةِ - انْتَهى.
{"ayah":"مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق