الباحث القرآني

ولَمّا كانَ هَذا العِتابُ مُؤْذِنًا بِأنَّ فِيهِمْ مَن تَباطَأ عَنِ الجِهادِ اشْتِغالًا بِنَحْوِ الأمْوالِ والأوْلادِ، وكانَ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآياتُ مِنَ الأوامِرِ والزَّواجِرِ والمَواعِظِ جَدِيرًا بِأنْ يُخَفِّفَ كُلَّ مُتَثاقِلٍ ويُنَشِّطَ كُلَّ مُتَكاسِلٍ، تَشَوَّفَتِ النُّفُوسُ إلى ما اتَّفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأعْلَمَ سُبْحانَهُ بِهِ في أسالِيبِ البَلاغَةِ المُخْبِرَةِ عَنْ أحْوالِ القاعِدِينَ وأقاصِيصِ الجامِدِينَ المُفْهِمَةِ أنَّ هُناكَ مَن (p-٤٨٠)غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّقاءُ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِالمَواعِظِ، فالتَفَتَ مِن لُطْفِ الإقْبالِ إلى تَبْكِيتِ المُتَثاقِلِينَ بِأُسْلُوبِ الإعْراضِ المُؤْذِنِ الغَضَبَ المُحَقَّقَ لِلسُّخْطِ المُبَيِّنِ لِفَضائِحِهِمُ المُبَعْثِرِ لِقَبائِحِهِمُ المُخْرِجِ لَهم ما دَخَلُوا فِيهِ مِن عُمُومِ الدُّعاءِ بِاسْمِ الإيمانِ فَقالَ: ﴿لَوْ كانَ﴾ أيْ: ما تَدْعُو إلَيْهِ ﴿عَرَضًا﴾ أيْ: مَتاعًا دُنْيَوِيًّا ﴿قَرِيبًا﴾ أيْ: سَهْلَ التَّناوُلِ ﴿وسَفَرًا قاصِدًا﴾ أيْ: وسَطًا عَدْلًا مُقارِبًا ﴿لاتَّبَعُوكَ﴾ أيْ: لِأجْلِ رَجاءِ العَرَضِ مَعَ سُهُولَةِ السَّفَرِ لِأنَّ هِمَمَهم قاصِرَةٌ ومَنُوطَةٌ بِالحاضِرِ ﴿ولَكِنْ﴾ أيْ: لَمْ يَتَّبِعُوكَ تَثاقُلًا إلى الأرْضِ ورِضًى بِالفانِي الحاضِرِ مِنَ الباقِي الغائِبِ لِأنَّها ﴿بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ أيِ: المَسافَةُ الَّتِي تُطْوى بِذَرْعِ الأرْجُلِ بِالمَسِيرِ فَيَحْصُلُ بِها النَّكالُ والمَشَقَّةُ فَلَمْ يُوازِ ما يَحْصُلُ لَهم بِها مِنَ التَّعَبِ ما يَرْجُونَهُ مِنَ العَرَضِ، فاسْتَأْذَنُوكَ، وفي هَذا إشارَةٌ إلى ذَمِّهِمْ بِسُفُولِ الهِمَمِ ودَناءَةِ الشِّيَمِ بِالعَجْزِ والكَسَلِ والنَّهَمِ والثِّقَلِ، وإلى أنَّ هَذا الدِّينَ مَتِينٌ لا يَحْمِلُهُ إلّا ماضِي الهَمِّ صادِقُ العَزْمِ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا هَمَّ ألْقى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ وأعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ العَواقِبِ جانِبا فَلِلَّهِ دَرُّ أُولِي العَزائِمِ والصَّبْرِ عَلى الشَّدائِدِ والمَغارِمِ! ولَمّا ذَمَّهم بِالشُّحِّ بِالدُّنْيا، أتْبَعَهُ وصْمَهم بِالسَّماحِ بِالدِّينِ فَقالَ مُخْبِرًا عَمّا سَيَكُونُ مِنهم عَلَمًا مِن أعْلامِ النُّبُوَّةِ: ﴿وسَيَحْلِفُونَ﴾ أيِ: المُتَخَلِّفُونَ بِإخْبارٍ مُحَقَّقٍ لا خُلْفَ فِيهِ ﴿بِاللَّهِ﴾ أيِ: الَّذِي لا أعْظَمَ مِنهُ عِنْدَ رُجُوعِكم إلَيْهِمْ جَمْعًا إلى ما انْتَهَكُوا مِن حُرْمَتِكَ بِالتَّخَلُّفِ عَنْكَ لِانْتِهاكِ حُرْمَةِ اللَّهِ (p-٤٨١)بِالكَذِبِ قائِلِينَ: واللَّهِ ﴿لَوِ اسْتَطَعْنا﴾ أيِ: الخُرُوجَ إلى ما دَعَوْتُمُونا إلَيْهِ ﴿لَخَرَجْنا مَعَكُمْ﴾ يَحْلِفُونَ حالَ كَوْنِهِمْ ﴿يُهْلِكُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ: بِهَذا الحَلِفِ الَّذِي يُرِيدُونَ بِهِ حَياتَها لِأنَّهم كَذَبُوا فِيهِ فانْتَهَكُوا حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ ﴿واللَّهُ﴾ أيْ: والحالُ أنَّ المَلِكَ الأعْظَمَ المُحِيطَ عِلْمًا وقُدْرَةً سُبْحانَهُ: ﴿يَعْلَمُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ فَقَدْ جَمَعُوا بَيْنَ إهْلاكِ أنْفُسِهِمْ والفَضِيحَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمْ في أنَّهم غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ، وجَزاءُ الكاذِبِ في مِثْلِ ذَلِكَ الغَضَبُ المُؤَبَّدُ المُوجِبُ لِلْعَذابِ الدّائِمِ المُخَلَّدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب