الباحث القرآني

ولَمّا بَلَغَتْ هَذِهِ المَواعِظُ مِنَ القُلُوبِ الواعِيَةِ مَبْلَغًا هَيَّأها بِهِ لِلْقَبُولِ، أقْبَلَ عَلَيْها سُبْحانَهُ بِالأمْرِ فَقالَ: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالا﴾ والمُرادُ بِالخِفَّةِ كُلُّ ما يَكُونُ سَبَبًا لِسُهُولَةِ الجِهادِ والنَّشاطِ إلَيْهِ، وبِالثِّقَلِ كُلُّ ما يَحْمِلُ عَلى الإبْطاءِ عَنْهُ؛ وقالَ أبُو حَيّانَ: والخِفَّةُ والثِّقَلُ هُنا مُسْتَعارٌ لِمَن يُمْكِنُهُ السَّفَرُ بِسُهُولَةٍ ومَن يُمْكِنُهُ بِصُعُوبَةٍ، وأمّا مَن لا يُمْكِنُهُ كالأعْمى (p-٤٧٨)ونَحْوِهِ فَخارِجٌ عَنْ هَذا. انْتَهى. قالَ البَغَوِيُّ: قالَ الزُّهْرِيُّ: خَرَجَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ الغَزْوَ وقَدْ ذَهَبَتْ إحْدى عَيْنَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّكَ عَلِيلٌ صاحِبٌ ضَرَرٍ فَقالَ: اسْتَنْفَرَ اللَّهُ الخَفِيفَ والثَّقِيلَ، فَإنْ لَمْ يُمْكِنِّي الحَرْبُ كَثَّرْتُ السَّوادَ وحَفِظْتُ المَتاعَ؛ ورَوى أبُو يَعْلى المَوْصِلِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أنَسٍ أنَّ أبا طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَرَأ سُورَةَ بَراءَةَ فَأتى عَلى هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: لا أرى رَبِّي يَسْتَنْفِرُنِي شابًّا وشَيْخًا! جَهِّزُونِي، فَماتَ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ جَزِيرَةً يَدْفِنُونَهُ فِيها إلّا بَعْدَ سَبْعَةِ أيّامٍ فَما تَغَيَّرَ. ﴿وجاهِدُوا﴾ أيْ: أوْقِعُوا جُهْدَكم لِيَقَعَ جُهْدُ الكُفّارِ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ في سِياقِ المُعاتَبَةِ لِمَن تَثاقَلَ إلى الأرْضِ عَنِ الجِهادِ عِنْدَ الِاسْتِنْفارِ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وكانَ سَبَبُ التَّثاقُلِ ما كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ مِنَ العُسْرَةِ في المالِ والشَّدَّةِ بِالحَرِّ وما كانَ مِن طِيبِ الظِّلالِ في أراضِي الجِنانِ وقْتَ الأخْذِ في اسْتِواءِ الثِّمارِ - كَما هو مَشْهُورٌ في السِّيَرِ؛ اقْتَضى المَقامُ هُنا تَقْدِيمَ المالِ والنَّفْسِ بِخِلافِ ما مَضى؛ فَإنَّ الكَلامَ كانَ في المُفاضَلَةِ بَيْنَ الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ وخِدْمَةِ البَيْتِ ومَن يَحُجُّهُ في هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي صادَفَ وقْتُ نُزُولِها بَعْدَ مَواطِنِ الجِهادِ وطُولِ المُفارَقَةِ لِلْأمْوالِ والأوْلادِ وقَدَّمَ المالَ لِأنَّ النَّظَرَ إلَيْهِ مِن وجْهَيْنِ: (p-٤٧٩)قِلَّتِهِ، ومَحَبَّةِ الإقامَةِ في الحَدائِقِ إيثارًا لِلتَّمَتُّعِ بِها وخَوْفًا مِن ضَياعِها مَعَ أنَّ بِها قِوامَ الأنْفُسِ، فَصارَ النَّظَرُ إلَيْها هو الحامِلَ عَلى الشُّحِّ بِالأنْفُسِ فَقالَ تَعالى: ﴿بِأمْوالِكم وأنْفُسِكُمْ﴾ أيْ: بِهِما مَعًا عَلى ما أمْكَنَكم أوْ بِأحَدِهِما ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيِ: المَلِكِ الأعْلى أيْ: حَتّى لا يَبْقى مِنهُ مانِعٌ ﴿ذَلِكُمْ﴾ أيِ: الأمْرُ العَظِيمُ ﴿خَيْرٌ﴾ أيْ: في نَفْسِهِ حاصِلٌ ﴿لَكُمْ﴾ أيْ: خاصٌّ بِكُمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أفْعَلَ تَفْضِيلٍ بِمَعْنى أنَّ عِبادَةَ المُجاهِدِ بِالجِهادِ خَيْرٌ مِن عِبادَةِ القاعِدِ بِغَيْرِهِ كائِنًا ما كانَ، كَما قالَ ﷺ لِمَن سَألَهُ: هَلْ يُمْكِنُ بُلُوغُ دَرَجَةِ المُجاهِدِ؟ فَقالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَقُومَ فَلا تَفْتُرُ وتَصُومَ فَلا تُفْطِرُ؟ وخَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إشارَةً إلى أنَّ هَذا الأمْرَ وإنْ كانَ عامًّا فَإنَّما يَنْتَفِعُ بِهِ ذَوُو الأذْهانِ الصّافِيَةِ والمَعالِمِ الوافِيَةِ، فَإنَّ العِلْمَ - ولا يُعَدُّ عِلْمًا إلّا النّافِعُ - يَحُثُّ عَلى العَمَلِ وعَلى إحْسانِهِ بِإخْلاصِ النِّيَّةِ وتَصْحِيحِ المَقاصِدِ وتَقْوِيَةِ العَزْمِ وغَيْرِ ذَلِكَ وضِدُّهُ يُورِثُ ضِدَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب